Michel Boujenah

ميشال بوجناح

خريف العام ألفين وعشرة، أياما قليلة قبل أن تندلع شرارة الثورة في تونس، انشغل التونسيون بمقطع فيديو لمطرب يغنّي في أحد الفنادق بالأراضي الفلسطينية المحتلة، ويهتف وسط جمهور من السّكارى بحياة بن علي ونتانياهو معا، الضجّة التي أثارتها الحادثة أجبرت هذا المطرب التونسي على الانسحاب كلّيا من السّاحة الفنية والاختفاء تماما من المشهد، كانت تلك لحظة جماعية فارقة انضافت إلى لحظة أخرى سبقتها، حينما وجّه بن علي دعوة إلى شارون لحضور القمّة العالمية لمجتمع المعلومات العام 2005، فدقّ مسمارا آخر في نعش حكمه المتهالك، ومنح المعارضة الديمقراطية فرصة ذهبية لتسجيل نقاط أخرى قرّبتها أكثر من الجماهير الشعبية، فالتّطبيع مع الكيان الإسرائيلي الغاصب خطّ أحمر لدى التونسيين جميعا حتى تلك اللحظة.

هناك أكثر من سبب يجعل من التّطبيع فكرة مرفوضة في الشّارع التونسي، أوّل هذه الأسباب دون شكّ الموقفُ التاريخي الذي يحسب لتونس في سجل القضيّة الفلسطينية، فبعد اجتياح القوات الإسرائيلية بيروت عام 1982 وإرغام الفلسطينيين على مغادرتها، اتّخذ الرئيس الحبيب بورقيبة قرارا شجاعا باستضافتهم وتمكينهم من إدارة شؤون القضية من تونس، واستُقبل كوادر منظمة التحرير الفلسطينية وعائلاتهم استقبالا شعبيا هائلا في ميناء بنزرت، وعندما لاحقتهم طائرات العدوّ يوم غرة أكتوبر 1985، إلى حمّام الشطّ اختلط الدّم التونسي والفلسطيني، فالغارة لم يكن لديها متّسع من الوقت لتفادي التونسيين واستثنائهم من المجزرة.

أبو جهاد

أبو جهاد 1936-1988

في تونس أيضا امتدّت يدُ الغدر إلى أحد أبرز قادة المنظّمة التّاريخيين الشّهيد أبو جهاد، وخرجت جموع التونسيين مندّدة، فالمظاهرات الوحيدة التي كانت السّلطات السّياسية تسمح بتنظيمها هي المظاهرات المُساندة للقضيّة الفلسطينيّة، وعلى امتداد أكثر من عشر سنوات ظلّت فلسطين بكل مكوّناتها التّاريخيّة والسّياسية والثّقافية جزءا من الحياة التونسية اليومية، باندماج الفلسطينيين في المجتمع التونسي، إلى أن قرّرت قيادة المنظمة العودة بموجب اتّفاق “أوسلو” إلى ما أسماه الشّاعر الراحل أحمد دحبور “الجزء المتاح من الوطن”، فخرج الفلسطينيون من تونس كما لم يخرجوا من قبل، من أيّ مكان عربي أقاموا فيه منذ النّكبة، عبّر عن ذلك محمود درويش ليلة الوداع صيف عام 1994 بقوله: “لقد رأينا في تونس من الألفة والحنان والسند السمح ما لم نر في أي مكان آخر، لذلك نخرج منها كما لم نخرج من أي مكان آخر نقفز من حضنها الى موطئ القدم الأول في ساحة الوطن الخلفية بعدما تجلّت لنا فيها في البشر والشجر والحجر صور أرواحنا المحلّقة  كعاملات النّحل على أزهار السّياج البعيد”.

فعلت تونس ذلك رغم بعدها الجغرافي عن الشّرق الأوسط، ورغم أن خلاف بورقيبة مع عبد الناصر بعد خطاب أريحا جعل منه في أنظار المسحورين بالمضامين الثورية الشرقية عميلا وخائنا، ولم يكن ذلك صراعا بين زعيمين تاريخيين، بقدر ما كان انعكاسا للتناقض الحادّ بين الواقعية السياسيّة و المثاليّة الايديولوجية.

قصص التّضامن التّونسي مع الشّعب الفلسطيني في قضيته العادلة لا تنتهي، وآخرها ما كشفته حركة المقاومة الإسلامية حماس حول النشاط الحركي للمهندس التونسي محمد الزواري الذي اغتيل أمام بيته في صفاقس في ديسمبر 2016 ضمن كتائب عز الدين القسّام جناحها العسكري مُتّهمةً جهاز المخابرات الإسرائيلي بتصفيته، هذه الحادثة تبعتها إهانة أخرى لم يتردّد التونسيون في التعبير عن غضبهم إزاءها، إذ ظهر صحفيّ من القناة العاشرة الإسرائيلية وهو يتكلّم بطلاقة من أمام مقرّ وزارة الدّاخلية في قلب العاصمة دون أن يطرف له جفن، لكن الاستقطاب الثنائي الذي يقسم السّاحة السياسية بين الإسلاميين والعلمانيين ألقى بظلاله في هذه الحادثة على الموقف المبدئي التّاريخي من القضيّة الفلسطينية وظهر بعض التردد والارتباك في تقدير الموقف لا سيما بعد دخول حماس على الخطّ.
لا يعني هذا بالطبع، انعدام أي شكل من أشكال التطبيع مطلقا أو بما يسمح على الأقل بالتباهي إزاء الدول العربية الأخرى التي

محمود درويش

محمود درويش

تصنّف في خانة “المهرولين”، لكن كان ثمّة موقف شعبيّ يعتبر التطبيع خطيئة ويعادي الصهيونية باعتبارها حركة عنصريّة بوضوح شديد وبلا أي التباس، فاليهود في تونس يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، وزوّار معبد الغريبة لم يتوقفوا يوما عن الزيارة رغم كل المتغيرات السياسية. فما الذي يجعل إذن الرأي العام ينقسم هذه المرّة بخصوص قضية “ميشال بوجناح” والحال أنها قضية واضحة وبسيطة ولا تحتمل التعقيد؟ هو فنان فرنسي يهودي من أصول تونسية يحبّ تونس ولا يتردّد في الدّفاع عنها، لكنه أيضا مناصر للفكر الصهيوني وللنزعة الاستيطانية التوسعيّة التي تقتات من عذابات الشعب الفلسطيني اليومية، والاعتراض على تمكينه من تقديم عرضه على ركح مسرح قرطاج موقف سياسي مناصر للشعب الفلسطيني الشعب الذي يخوض معركته وحيدا في زمن أصبحت فيه الدول العربية تطالب بتجريم المقاومة ونسبتها إلى الإرهاب.

كل طرح يتجاهل هذا المعطى ويتناول المسألة من زاوية حرية التعبير والديمقراطية فقط هو طرح يتغافل عن الجوهر، فإيمان التونسيين بعدالة القضية الفلسطينية إيمان راسخ جعلهم على امتداد عقود طويلة يناهضون كلّ أشكال التّطبيع، وما الاختلاف في هذه القضية والبحث عن مبررات هامشية للالتفاف على كونها موقفا سياسيا قبل كلّ شيء الاّ دليل على أنّ تنوّع الطيف السياسي والإيديولوجي وإن كان دليلا على حيوية المشهد الديمقراطي فإنه جعل بعض الثوابت المبدئية تتصدّع وتتداعى للسقوط.