الإعلامي حسان بالواعر

الإعلامي حسان بالواعر

تعيد قضية حسّان بالواعر إلى الواجهة ملف حوكمة المؤسسات الإعلامية العمومية، ذلك أن عرضه على مجلس التأديب لقيامه بنشاط مواز في قناة تلفزيونية خاصة ومعاقبته بالرفت المؤقت من الإذاعة يفتح الباب أمام تأويلات سياسية متعددة رغم أن الإدارة تتعلّل بنصوص قانونية.

لا ينكر المتابعون لهذا الملف أن الإذاعة التونسية تستند في دعواها إلى النظام الأساسي للأعوان الذي يمنع على العاملين بها القيام بنشاط مواز دون ترخيص كتابي مسبق، ويؤكد الرئيس المدير العام في حوار صحفي حول الموضوع أن الترخيص ممكن في حالات مغايرة حيث يكون النشاط الموازي مختلفا عن طبيعة النشاط الأصلي مشدّدا على أن تضارب الاتجاهات التحريرية بين الإذاعة وقناة نسمة هو المحرّك الأساس للقضية وهو ما يؤكد الطّابع السياسي لهذا الملف رغم وضوح المدخل القانوني.

هناك فعلا عدة أسباب تدعو إلى الاعتقاد في أن القضية مُركّبة وكان يمكن أن تجري معالجتها وفق أسلوب مغاير يراعي المصلحة الفضلى لكل الأطراف، أول هذه الأسباب أن النظام الأساسي لأعوان الإذاعة نص قانوني قديم لم يعد يتماشى والوضع الجديد للحريات ولقطاع الإعلام في البلاد بعد الثورة لاسيما بدخول القطاع الخاص على الخط واعتبار المرفق العام أهم مصدر للموارد البشرية ذات الكفاءة والتجربة، ثاني هذه الأسباب وجود حالات مشابهة لحالة حسان بالواعر من حيث تضارب الاتجاهات التحريرية بين المشغلين لكنها تقبع في الظل أبرزها حالة الصحفي الذي يتمتع بخطة مدير ويشتغل في ذات الوقت مراسلا لإذاعتين أجنبيتين، بما يؤكد اعتماد الإدارة سياسة المكيالين وعدم تشبثها بالمصلحة الفضلى لكل الأطراف قاعدة مبدئية حيث يستفيد الصحفي بتعاونه مع قناة خاصة ماديا ومعنويا وتستفيد مؤسّسته بلا شك إن آجلا أو عاجلا من هذه التجربة، فالظهور التلفزيوني يمكّن الإذاعي من الانتشار والتأثير وامتلاك قاعدة جماهيرية عريضة، وإن كان الاختلاف بين الخط التحريري لقناة نسمة وخط المرفق العام حادّا حتى التضارب حقا فقد كان يمكن بكل بساطة ودون اللجوء إلى آلية العقاب تكليف الصحفي بعمل آخر غير تقديم البرامج في انتظار انتهاء تجربته مع القناة، على أن يظل أمام كل الأطراف التزام أخلاقي وحيد يتمثل في عدم إخلال المعني بالأمر بواجباته الأصلية أيّا كان نوعها وهو ما يمكن إثباته بالأدلة غير القابلة للدحض عند وقوعه والتصرّف إزاءه بما تقرّه القوانين والأعراف.

لسبب غامض إذن اختارت رئاسة الإذاعة التونسية أن تتحرّك في هذا التوقيت بالذات لفتح ملف قديم قِدمَ المؤسّسة ذاتها فهي بدورها تعتمد أساسا التعاون الخارجي مع أشخاص ينتمون إلى قطاعات مختلفة، بل إنّ أحد أهم أسباب تراجع الإذاعات العمومية وتدنّي نسب الإقبال عليها هو انغلاقها على ذاتها واعتمادها بشكل رئيسي في قطاع الإنتاج على الأعوان المرسمين الذين يمثلون بكل المعايير عبئا يثقل كاهلها، وقد عجزت كل المشاريع الإصلاحية عن تنفيذ عملية تطهير تبدو شبه مؤكدة وضرورية واستحال الأمر نهائيا بل تفاقم بعد الثورة.

وفي انتظار صدور نظام أساسي جديد لأعوان الإذاعة التونسية يأخذ بعين الاعتبار كافة المستجدّات القانونية والسياسية والتكنولوجية فإن سلطة الإشراف مدعوّة إلى كبح جماح السّلطة التقديرية المطلقة التي يتمتع بها الرؤساء المديرون العامّون لهذه المؤسسة بعد الثورة، ولم يكن الأمر كذلك في يوم من الأيام منذ تأسيسها قبل سبعين عاما، إذ أدّى قرار محمد الغنوشي المتسرّع وغير المسؤول بإزالة وزارة الاتصال إلى وضع إداري غير مسبوق يلحق مؤسسات الإعلام العمومي مباشرة برئاسة الحكومة وهي خطوة غير مدروسة لإصلاح قطاع لم تكن الوزارة أبدا معضلته، بل كان يشكو أساسا من تداخل وظائف الإشراف وتشتّت مرجعية القرار بين السّلطة التنفيذيّة وسلطة المستشار. وقد اختارت الحكومات المتعاقبة لاحقا الإبقاء على الوظيفة الاستشارية والقطع نهائيا مع بنية المؤسسة، وهو ما يمكن أن يستغل في قضية الحال لتوريط رئاسة الحكومة ذاتها في شبهة توظيف النصوص القانونية لإدارة خلافات سياسية.

تبدو قضية حسّان بالواعر إذن نظرا لما حظيت به من اهتمام إعلامي وجماهيري مناسبة للفت الانتباه مجدّدا إلى تعدّد حالات التعسّف في استخدام القانون وتجاوز السّلطة في الإذاعة، وهو ما يدعو إلى النظر بكل جدية في ملفّ حوكمة مؤسسات الإعلام العمومي وتحميل المسؤولية للأطراف التي تسعى من الدّاخل إلى تعكير المناخ الاجتماعي وتعطيل أي تقدّم حقيقي في اتجاه تطوير القوانين، فهذه الحادثة تشير بوضوح إلى أزمة داخلية تعلن عن نفسها في شكل مكافحة جدية للفساد بينما تخفي غابة من المصالح والمآرب المتضاربة.