ليلة السابع عشر من جانفي 1991 واصل التلفزيون التونسي تقديم برامجه بلا انقطاع، تابعت نشرات الأخبار لحظة بلحظة أنباء قصف بغداد وحقّقت إنجازا مهنيا ستظلّ الذاكرة تتباهى به لسنوات. ارتفعت في يوم وليلة نجومية الصحفيين الذين كانوا يقدمون أخبار الحرب وكان بعضهم يرتجلون أحيانا بقدرة فائقة ترجمة البرقيات التي تصل إلى الأستوديو ولا تحتمل الانتظار، كان ذلك نجاحا مميزا، ولا أحد يعرف على وجه التدقيق كيف اتُّخذ هذا القرار الجريء؟ ولكنْ بصرف النظر عمّا يمكن أن يكون قد وقع حقّا في كواليس تلك الليلة بين الإدارة العامة للإذاعة والتلفزة ورئاسة الجمهورية فإن المنتج النهائي الواصل إلى بيوت كل التونسيين عبر

صدام حسين

صدام حسين

الشاشة أثبت القدرة المهنية المبهرة التي استجاب بها الصحفيون للتحدي الكبير، لم يكن ثمة انترنت أو قنوات فضائية بالحجم المتاح حاليا، ومن الصعب على صحفي اليوم أن يتخيل نفسه في مواجهة حدث عالمي كبير كهذا أعزل بلا أدوات، فقط كانت لدى العاملين بمختلف المحطات برقيات متهاطلة على أجهزة التلكس في غرف الأخبار وأجهزة راديو عملاقة لالتقاط قنوات الشرق والإذاعات البعيدة وحافظة الحبيب اللمسي موزع الهاتف الشهير، أضف إلى ذلك صعوبة تحديد طبيعة الخطاب الإعلامي الرسمي المطلوب وكيفية ترجمة المسافة الفاصلة بين القرار السياسي واتجاهات الرأي العام بدقة، فعلى الصعيد السياسي تحفظت تونس في الجامعة العربية على التحرك العسكري الدولي ضدّ دولة عربية عضو في الجامعة مع إعلان رفضها غزو العراق دولةَ الكويت، وجماهيريا كان الشارعُ منحازا كلّيا إلى العراق وكانت صور صدام حسين تملأ الشّوارع والسّاحات في المظاهرات الحاشدة ضدّ العدوان، وكان على الإعلام أن يُعبّر عن الموقف الرسمي دون أن ينجرف وراء العاطفة الشعبية.

توقفت البرامج الإذاعية العادية وتم توحيد البث مع الإذاعة المركزية، قُــسّم الوقت الإذاعي بين المذيعين ومقدمي البرامج بالإذاعة الوطنية ليخاطبوا الجمهور في كامل تراب الجمهورية وخارجها بواسطة الموجة المتوسطة الاعتيادية والموجات الخاصة بإذاعتي صفاقس والمنستير فضلا عن الموجة القصيرة التي توصل أصواتهم إلى آخر الدنيا. اقتصر الأمر على تقديم أغان هادئة و”محايدة” مع التذكير بالوقت بين أغنية وأخرى، ومع تطور الوضع الميداني صارت الإذاعة تقدم مكالمات هاتفية مسجلة مع مواطنين تونسيين في الشرق الأوسط والخليج العربي لطمأنة الأهل عن أحوالهم. أكثر من ثلاثين دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تقصف بغداد، أخبار الحرب منذ الليلة الأولى تشعرك أن هذه المدينة العظيمة أصبحت أثرا بعد عين، لكنك تستيقظ صباحا على خبر إطلاق صواريخ السكود الأولى من مكان ما في العراق نحو تل أبيب! صواريخ الحسين والعباس تتساقط على حيفا والنقب وملامح الذعر الاسرائيلي تسافر حول العالم في أخبار عاجلة تؤكد أن صدام حسين بخير وأنه يقود “أمّ المعارك” بكفاءة عالية. طلبة الجامعات والمدارس ينسون العدوان العراقي على الكويت ويتذكرون أنهم درسوا التاريخ والجغرافيا في كتب مهداة من العراق زمنَ مجده، المظاهرات تملأ الشوارع والساحات، نساء رأين في المنام صورة صدام حسين ظهرت على وجه القمر ويؤكدن ذلك للصحف اليومية والأسبوعية التي ارتفعت مبيعاتها بشكل غير مسبوق، آخرون يتحدثون عن شعرة في المصحف وكلمات مبهمة ظهرت على البيض، الكل يعيش الحرب بإيقاعه الخاص.

ماذا نفعل؟ قال الصادق بوعبان.

كنا يومها في مطعم “لاروزا” بالميناء السياحي مارينا بالمنستير، المطعم خال من السواح فقد كان الفصل شتاء والحرب جعلت الفنادق والمقاهي والمطاعم وسيارات التاكسي تعيش أزمة خانقة، كان الطقس في الخارج رماديا مكتظا بأمطار تنذر بالهطول ولا تفعل، الأعناق مشرئبة في كل مكان نحو أجهزة التلفزيون تتطلع إلى النشرات والأخبار العاجلة، هناك وسط التوجس والذهول احتفلنا على طريقتنا بالصواريخ العراقية التي قصفت تل أبيب، تحدثنا عن الحلم العربي وعن النكسة، وقررنا أن نحتج لدى الإدارة على هذه البطالة القسرية فنحن في لحظة تاريخية نادرة ومن العبث أن نظلّ خارجها.

تكفّل الصادق بوصفه المسؤول عن البرمجة بأن ينقل هذه الهواجس إلى رئيسه المباشر صالح شبيل مدير الإذاعة الذي دعي منذ اندلاع المعارك إلى الإشراف على غرفة الأخبار الإذاعية المركزية في العاصمة. وسرعان ما تحادث سي صالح مع المدير العام صلاح الدين معاوي وتقرر أن تنضم مجموعة منا إلى الفريق المكلف بتأمين التغطية الإذاعية على موجات البث الموحد.

كان ذلك الأمر على بساطته يمثل انتصارا معنويا أردنا استغلاله في سياق المنافسة الحادّة بين المركز والجهات، لذلك كان لزاما علينا أن نجلس قليلا في مقهى صغير كائن بنهج العراق المتفرع عن شارع فلسطين في منطقة لافايات حيث مبنى الإذاعة، جلسنا نحن الثلاثة، أنا والصادق وعواطف ورابعنا الحبيب جغام نتحدث في بعض التصورات والأفكار التي يتحتم عرضها على مدير الإذاعة الوطنية حتى يفهم أن قدومنا من المنستير إلى العاصمة لم يكن بغاية المشاركة ونيل نصيب من نسبة الاستماع العالية في تلك الأيام بشكل استثنائي. بل لتقديم أسلوب مختلف في معايشة الوضع. كانت رؤوس الأقلام تصف مخططا مصغرا للبرامج ارتجلناه في المقهى ارتجالا يتضمن برامج حوارية تناقش الأزمة من مختلف جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لكن الأمر لم يستغرق وقتا طويلا في مكتب مدير الإذاعة الذي استمع إلى بعض هذه

عواطف حميدة

عواطف حميدة

الأفكار ثم رفع يده في اتجاه الساعة الحائطية وقال بلهجة حاسمة لم يكن خافيا ما تنطوي عليه من تهكم:

التذكير بالوقت من حين إلى آخر وتقديم الأغاني، ثم بث المكالمات الهاتفية المسجلة، هذا كل ما لدينا الآن! وعندما صافحناه مودعين أضاف مستدركا: الأغاني ينبغي أن يؤشر عليها البشير رجب، فسلموه ما لديكم!

كان سي صالح في مكتب رئيس التحرير وكانت غرفة الأخبار أشبه بخلية النحل، حركة لا تهدأ وأصوات من هنا وهناك تؤلف مع صوت التيليكس والراديو سمفونية لا يتذوق جمالها الا من يدركه، ترك ما كان منشغلا به وخرج لاستقبالنا، نقلنا إليه ما دار من حديث في مكتب مدير الإذاعة الوطنية فعبر عن أسفه وطلب التعامل مع الوضع بمرونة خاصة لأن كثيرا من الأشخاص كانوا منزعجين أصلا من قرار استحضار مدير للأخبار من خارج المركز، فوجئنا عندما اعتذر لنا بلطف غير معهود لأنه على حدّ تعبيره دعانا إلى القدوم دون أن نجد ما يستحق ذلك العناء(!)، ثم لم يلبث أن استعاد صرامته المعهودة وأمرنا بمغادرة المكان فورا عندما علم أن المدير قرّر أن يُدخل إلى الأستوديو مع كل واحد منا زميلا من الإذاعة الوطنية “يسنده”! كانت تلك بالنسبة إلينا جميعا إهانة لا تغتفر. ولمحو آثار هذه الإهانة توصل سي صالح إلى إقناع المدير العام بضرورة فكّ الارتباط وإنهاء البث المُوحَّد مع الإذاعة المركزية.
استيقظنا صباحا على صوت رنين الهاتف، كان سي صالح على طرف الخطّ:

اليوم تعودون إلى المنستير، وغدا صباحا نستأنف البثّ، نفذوا ذلك البرنامج الذي أتيتم به إلى هنا ورفضوه!

قرّرت المدير العام فكّ الارتباط ولم ننتبه في تلك اللحظة إلى أن سبب القرار يعود أساسا إلى الرغبة في تخفيف الاحتقان العام والخروج تدريجيا من حالة الأزمة التي عاشتها البلاد منذ ليلة قصف بغداد الشهيرة، ولم يكن لدينا آنذاك من النضج الإعلامي والسياسي ما يكفي لتجاوز حالة التنافر والتنافس مع الوطنية فالحربُ كانت فرصة مثالية لاختبار المهارة الإعلامية، ينطبق ذلك على الجميع إذ صارت نشرة الأنباء الصباحية من إذاعة صفاقس مسموعة على نطاق واسع، وارتفعت مبيعات جريدة “الشروق”، غيّرت الحرب مراكز النفوذ الإعلامي وصار الخطابُ الأقربُ إلى العاطفة الشعبية الموالية إلى العراق يستحوذ على نسب عالية من المتابعة، لكن ذلك لم يكن متاحا بسهولة في وسيلة إعلام عمومية كالتي نتحرّك في فضائها بل يعتبر خطأ مهنيا، وكان على الإدارة العامة أن تتصرّف في كمّ هائل من الأخطاء بحسب خطورتها ودرجة تأثيرها في الرأي العام، فهمنا ذلك في لقاء جمعنا بالمدير العام عندما استقبلنا في مكتبه لشرح وجهة نظره بعد توحيد البثّ ثانية مع الإذاعة الوطنية، “سفارات الدول العربية المناصرة للحرب آذانها مفتوحة وهي ذات كلمة مسموعة في دوائر القرار، علاقاتنا الديبلوماسية مع دول الخليج تمرّ بفترة صعبة والوضع لا يحتمل المزايدات”، أردف قائلا: “لقد استمعت إلى الكثير من البرامج التي تم تقديمها خلال فترة فكّ الارتباط وكان ثمة انحياز كبيرٌ إلى العراق”. جرى هذا اللقاءُ بعد قصف ملجأ العامرية الكائن في حيّ سكني من أحياء بغداد والقضاء بشكل وحشي على المئات من المدنيين الذين كانوا مختبئين فيه يوم الثالث عشر من شهر فيفري 1991، أجّج ذلك العدوان مشاعر التعاطف العربي مع الشعب العراقي وقيادته، ولم تعد مبررات الحرب التي تُسوّقها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها ذات تأثير يذكر في الرأي العام، فالقصف المُركّـــزُ على العاصمة العراقية أعطى مشروعية للإحساس الشعبي بأن الحرب تهدف إلى تدمير بنية العراق التحتية، “عاصفة الصحراء” كما يسميها الطرف الأمريكي حرب غايتها إجبار العراق على الانسحاب من الأراضي الكويتية بعد سبع شهور من الاحتلال وهي في ذات الوقت “أمّ المعارك” كما يعتبرها الطرف العراقي حرب تنطوي على أبعاد استراتيجية تبدأ بإضعاف دولة عربية

صالح جغام

صالح جغام

قوية والاستحواذ على ثرواتها، من ثمة كان الخطاب الرسمي العراقي عاطفيا يستثمر المشاعر القومية ويتحدث عن تحرير القدس وتوزيع الثروات النفطية توزيعا عادلا فألهب مشاعر الناس في البلاد العربية وجعل قضية الكويت لا تحظى بتعاطف يذكر بل وتتضاءل أمام صورة البطل المنقذ صاحب القضية العادلة، وازدادت تلك الصورة حضورا وتوهجا في الذهنية العامة والمخيلة الشعبية بقصف ملجأ العامرية. أعلنت حالة الحداد الرسمي في اليوم الموالي الخميس، واقتضى ذلك تعميمَ بث الإذاعة الوطنية على كافة محطات الإرسال مجددا، وهو الأمر الذي جعل كلّ الأسماع تتجه إلى برنامج “حقيبة المفاجآت” في موعده الأسبوعي واستطاع صالح جغام ليلتها أن يعبّر بكل ما أوتي من ذكاء مهني عن التعاطف الشعبي مع الشعب العراقي الذي أصبح أطفاله مرمى لصواريخ أمريكية تدعمها أكثر من ثلاثين دولة. تحدّث صالح جغام عن العروبة كما لم يتحدّث من قبل، وقدّم بجرأة كبيرة أنشودة غنتها أم كلثوم عن بغداد من كلمات محمود حسن إسماعيل وألحان رياض السنباطي عقب ثورة 1958، وكان من الممكن إسقاط معاني كلماتها على الوضع الراهن آنذاك لبث شحنة من التعاطف والحماسة، إذ تقول: “بغدادُ يا قلعةَ الأسودِ، يا كعبةَ المجدِ للخلودِ، يا جبهةَ الشمسِ للوجودِ، سمعتُ في فجرِكِ الوليدِ توهُّجَ النارِ في القُيودِ وبيرقُ النصرِ من جديدِ يعودُ في ساحةِ الرّشيدِ”.

اقتنص صالح جغام الفرصة وقدّم واحدة من أجمل حلقات برنامجه، تصرّف بشكل تلقائي غير محسوب ولم تثنه تعليماتُ الإدارة عن مجاراة الحسّ الشعبي فتعمّد ارتكاب ذلك الخطأ المهني الذي تترصّده آذان السفارات، لكن القدر لم يمنح رؤساءه متّسعا من الوقت للفت نظره إلى خطورة ما أقدم عليه، فقد كانت تلك الحلقة من برنامج “حقيبة المفاجآت” هي الأخيرة. أياما قليلة بعدها دخل صالح جغام في غيبوبة بعد تعرضه إلى حادث اختناق بالغاز وظلّ ثلاثة أيام في إحدى المصحات معلّقا بين الحياة والموت. لم يتمكن شقيقه الحبيب من الجلوس معنا إلى المدير العام صلاح الدين معاوي يومها فقد كان منشغلا بحالة أخيه وكانت أنظار الجميع مشرئبة إلى المصحّة حيث يرقد أحد أبرز رجال الإذاعة التونسية، طلب المدير العام عقد هذا اللقاء بعد أن وصله احتجاج كتابي من إعلاميي الداخل عن سياسة توحيد البث، وكان أثناءه ودودا للغاية، شغل وضع صالح جغام الصحي جزءا من الحوار الذي دار بيننا وخيّم جوّ من الكآبة قبل أن يرنّ جرس الهاتف وينشغل عنا المدير العام بضع دقائق بمكالمة هاتفية بدت على غاية من الأهمية ثم عاد إلى مواصلة الحوار دون تركيز.

كنا في طريق العودة إلى المنستير يومها عندما أذيع في نشرة الساعة الثانية ظهرا خبرُ تعيين عبد الحفيظ الهرقام مديرا عاما جديدا للإذاعة والتلفزة التونسية.