salfia-bezerrفي إحدى خطب الجمعة بمسجد من المساجد التي خرجت عن سيطرة الدولة، تناول الإمام أوضاع البلاد وأرجع كل ما يعكر صفو النظام إلى رغبة العلمانيين في السيطرة مجددا على الحكم وإعادة الأمر إلى ما كان عليه في عهد المخلوع، فهم حسب قوله لا يقبلون بوجود الإسلاميين في مواقع أخرى غير السجون، ولا ينظرون بعين الرضى إلى تقوى الشباب لأنها لا تنسجم وأفكار الغرب الكافر، إنهم أعداء الإسلام!

في ظل هذه الفكرة التي تنظر إلى الأشياء من زاوية واحدة وبمنطق دغمائي لا يجد خطيب الجمعة هذا حرجا في أن يفسر الوقائع للمصلين من وجهة نظره هو، فأحداث العنف كلها من باب سويقة إلى سليمان والروحية وبئر علي بن خليفة وكلية الآداب والسفارة الأمريكية…، مفتعلة مبالغ فيها منسوبة زورا وبهتانا إلى المتدينين بغاية إظهارهم بشكل مرعب يهدّد أمن المواطن وسلامته الشخصية!، ولا يتوقف الرجل عند حدود البلاد التونسية بل يتعداها إلى الجزائر، فالعشرية السوداء التي تستعمل اليوم للتخويف من الإسلاميين هي أيضا فزاعة ظالمة، وآلاف القتلى الذين عثر عليهم مذبوحين كانوا على حدّ قوله ضحايا الجيش اغتالهم ونسب الأمر إلى أعدائه!.

يلخص هذا الإمام استراتيجيا الخطاب لدى كثير من المتكلمين باسم الإسلام، فهم يقدمون خطابا تبسيطيا يفسر التاريخ بنظرية المؤامرة، وهو خطاب المسلمات يتداخل فيه بإحكام ما قاله الله الحي القيوم وما قاله إمام الثالثة من التعليم الثانوي، فيقضي نهائيا على كل رغبة في التفكير وكل نزعة إلى التساؤل خصوصا لدى فئة من الناس ليس لديها بحكم عوامل موضوعية أخرى أي استعداد للاختلاف، وهو خطاب انتقائي يختار من الحوادث ما يلائم رغبته وقدرته معا في تسطيح الأذهان، فمن السهل إرجاع الإرهاب إلى الاستخبارات ومن الصعب إيجاد مبرر واحد لدفن ابن جرير الطبري في بيته!. هذا الخطاب التعبوي الذي يهدف إلى تعميم عقدة الشعور بالاضطهاد، بنيته نمطية بسيطة تقوم على الصراع بين الخير والشر دون تعديلات يفرضها السياق فالإسلاميون في هذا الخطاب مضطهدون حتى وهم على رأس السلطة!، وهو خطاب مظلل يستغل السياق ليوحي بأنه الحقيقة المطلقة مما يجعل كثيرا من المتدينين وخصوصا الجدد منهم والبسطاء لا يستندون في مواقفهم وآرائهم إلى قراءات وتحاليل شخصية إنما يستأنسون الكفاية في ما يحصلون عليه من خطب المساجد ودروسها، تلك التي تعدّهم إلى “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”، وتؤهلهم إلى “جادلهم بالتي هي أحسن”، دون حاجة إلى الغوص في بطون المجلدات والكتب.

وليس غريبا أن تكون بعض خطب الجمعة على هذه الشاكلة ولكن الغريب أن ينتشر هذا التفكير خارج المساجد ويتوزع في الفضاءات العامة عبر شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، فالتعاطف الشعبي الواسع مع ضحايا انفجارات الشعانبي حرك من جديد آلة الخطاب التعبوي القائمة على عقدة الاضطهاد، وصرت تقرأ هنا وهناك مواقف غريبة تبدأ من مجرد التشكيك في الرواية الرسمية لتصل في النهاية إلى تكذيبها تماما. هذه المواقف تختلق سيناريوهات لا يقبلها المنطق السليم لمخالفتها السياق الطبيعي، فمن الصعب عزل أحداث الشعانبي عن الحرب في مالي أو الاعتداء على منشأة غاز في الجزائر أو الجهاد في سوريا أو تفجير مسجد شيعي في باكستان لأن العقيدة التي تحرك هذه الأحداث واحدة وليس ثمة موضوعيا ما يبرر استثناء الوضع التونسي. لكن الآلة تتحرك وفق إيقاع مضبوط، ففي الوقت الذي اضطرت فيه السلطة الحاكمة بفعل الصدمة الشعبية إلى تغيير موقفها من السلفيين انطلقت حركة التشكيك! تماما كما حدث في اغتيال شكري بلعيد عندما غير رئيس الحكومة موقفه نزولا عند ضغط الصدمة الشعبية فانطلقت روايات مشككة يذهب بعضها إلى القول بأن الاغتيال لم يقع أصلا!!

ولئن كان البعض يرى أن هذا الخطاب هو نتيجة منطقية لحالة الانفلات في بعض المساجد وفضاءات التواصل الالكتروني حيث يمكن تفسير الأشياء من غير التقيد بضوابط، فإنه من الجائز أيضا الانتباه إلى أن التشكيك بجرة قلم في كل الحقائق وإن كانت دامغة يهدف إلى زعزعة كل مظاهر الوحدة الوطنية التي يسترجعها الناس في لحظات الحزن والصدمة والخوف، كما أن انخراط بعض المؤسسات الإعلامية حديثة النشأة في تعميم خطاب الشك هذا يجعل الأمر أعقد من أن يكون مجرد انفلات خارج عن السيطرة.