أ0_2631صابني هلـعٌ شديد وأنا أكتشف بمحض الصدفة أن “البلطي” مغني “الراب” الشهير يتمتع بشعبية كبيرة لدى فئة عريضة من تلاميذ المدارس الإعدادية اليافعين. وأصابني غَــمّ أشدّ وأنا أستمع إلى بعضهم يفسّر ذلك بأن فنّ السيدة فيروز وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم الذي نعتبره نحن عنوانَ الذوق السليم فيه الكثير من “الكُـبّي” وتـقشعرّ له أبدانُ هؤلاء لأنه يفتقر إلى الإيقاع والجاذبية، وقد تجاوزته الأحداثُ بكثير !!!

إنّ هذه المعاينةَ التي تحتاج إثباتا واستيضاحا وتوسّعا ينبغي ألا تكون مدعاة للتباكي مرّة أخرى بدموع الحنين على الزمن الجميل الذي ولّى وانقضى، بل هي سبب كاف للبكاء بدموع الندم على الزمن القادم. فقد علّمنا التاريخُ أن الشعوب والأمم والحضارات التي تعاقبت على هذه الأرض منذ حدوث الانفجار العظيم وهبوط آدم عليه السلام من الجنة، لم تـبقَ منها إلا فنونُها وآثارُها وعمارتُها وكُتبُها وما بذله الأقدمونَ في سبيل تهذيب الذات البشرية والارتقاء بها وبناء الانسان. ولهذا السبب بالذات رفعت بعض الشعوب المتيقّظة “فيتو” الخصوصية الثقافية في وجه اتفاقية التجارة الدولية بينما كان الوطن العربي يغطّ في نوم عميق مأخوذا بفتوحات العام سام وزعيق الحياة الليبرالية البهيجة

 في غمرة هذا الحلم الأمريكي اللذيذ أصبح شعبان عبد الرحيم بطلا قوميا وأصبح البلطي معبود التلاميذ وأصبحت السيدة فيروز مطربة مُملّة، وصار عبد الحليم حافظ شخصا ثقيل الظلّ لا يُحتمل…

قد تكون ظاهرةُ انتشار أغاني “الراب” لدى جمهورٍ قُدرتُه على التفكير والتمييز والمناقشة ضعيفةٌ ومحدودة، أمارةً على حـقِّ أيٍّ كانَ في أن يقول ما يشاءُ، متى يشاء، أينما يشاء وكيفما يشاء، بل سيجد الأبواب جميعها مفتوحةً أمامه تبشيرا بهذه الحرية التي لا حدّ لها وتيمنا بعطاياها، ولكنّ هذه الحرية العرجاء ليست مربط الفرس ولا بيتَ القصيد.. وهي حرية في كثير من الأحيان مغشوشة لا يُعتـدُّ بها، خادعة ومظلّلة لأنها تعصف بالثوابت عصفا وتعجز عن مقاربة المتغيرات..

فالسياسة الثقافية والاتصالية التي ترفع شعار الحرية ولا تمتلك أدوات التأثير الناجعة للبقاء في المقدّمة، يضمُرُ دورُها الحمائِي والاستباقي الطلائعي أمام قانون العرض والطلب وما يفرزه من مظاهر عجيبة، والحال أن سلطة الثقافة والإعلام في خضمّ هذه التحوّلات محكومةٌ بقانون التحدّي والاستجابة الذي يحدّد مدى توفقِ الثقافة الرسمية في الحفاظ على أسباب بقائها ومقاومة النزعة المتحفية التي قد تكتفي بها أحيانا وهي تراقب أمواج هذا التغيـير الهادر..

ولا يمكن نكران علاقة هذا الاعوجاج الذي أصاب شخصية الفرد القاعدية  بمشاكل العنف المدرسي والرياضي وتتالي الهزائم الكروية وتلاشي الروح المعنوية وتراجع الواعز الوطني، فالفنون ليست بضائع استهلاكية تباع في المهرجانات الصيفية وفي المنوعات التلفزية فحسب، والسلطة الثقافية ليست متعهدة حفلات وصانعة للفرح والبهجة، وإنما هي في قلب معركة ضارية تدافع فيها الأصالةُ عن معناها والفنونُ عن جدواها لأنها مفتاحُ التنشئة الاجتماعية السليمة وعمادُ التنمية البشرية

2010