ثكنة بوشوشة

كان لا بدّ لوزارة الدفاع الوطني أن تجد وصفا لائقا بما حدث في ثكنة بوشوشة إبان حدوثه، فوسائل الإعلام ضيقت الخناق على العسكر من أجل الظفر بإجابة رسمية عن سؤال واحد وحيد لاذت إزاءه السلط المسؤولة بالفرار: هل هو عمل إرهابي؟

الترجمة العملية لهذا السؤال: هل ينتمي القاتل إلى الجماعة الإرهابية التي شنت الحرب على البلاد منذ صدرت فيها الفتوى بأنها أرض جهاد، وماذا نسمي القتلى هل هم شهداء عند ربهم يرزقون أم هم مجرد قتلى؟ وتهاطلت الصور الأولى على النت لصحافة الاستقصاء تنقل الأجواء من أمام بيت القاتل بعنوان لافت يتحدث عن الفقيد ولولا بعض من حياء لكتبوا الشهيد!! ولا عزاء للأبرياء العُزّل الذين انفتحت في وجوههم خزانة الرصاص بوحشية لا متناهية وهم يؤدون تحية العلم لم نقرأ حتى أسماءهم. يا الله، كم نحن خارج السياق!

الآن وقد حدث ما حدث، وسواء أكان الأمر قد دُبّر بليل في أقاصي الشعانبي أم إنه أزمة نفسية حادّة لشخص ممنوع من حمل السلاح يتجول بكل حرية بين زملائه المسلحين! هناك ثلاث حقائق تفرض نفسها:

الحقيقة الأولى: أن المقاربة اللغوية التي تستند إلى هوية القاتل مغلوطة، فالوقائع تؤكد أننا أمام عملية إرهابية بامتياز دارت بشكل ناجح داخل مؤسسة عسكرية محصنة أيا كان انتماء القاتل، ولا يغير القول بأنه كان يعاني من اضطرابات نفسية شيئا فكل القتلة لحظة ارتكابهم جريمة القتل هم في لحظة اضطراب نفسي بل إن كل الفيديوهات التي ينشرها الانتحاريون قبل تفجير أنفسهم تُظهرهم في شكل المضطرب النفسي أو المخدّر، لقد توفرت كل عناصر العملية الإرهابية وأبرزها وجود قاتل انتحاري لا تربطه بالقتلى علاقة عداء مباشرة وشخصية تبرر إقدامه على قتلهم بتلك الوحشية ناهيك عن وقوعها في محيط مغلق يشتهي كل إرهابي أن يفجر نفسه فيه، فأهدافهم معروفة وواضحة، والقاتل قد حقق هدفا إرهابيا سواء أكان مكلفا بذلك ومنتميا أو قام بما قام بشكل منفرد ومن تلقاء خلله النفسي. النتيجة واحدة فلنحسم أمرنا بشكل لا يترك للتردّد مكانا.

الحقيقة الثانية تبدو في الفوضى التي ظهرت عليها وسائل الإعلام أثناء تعاطيها مع هذا الحدث، نفس السيناريو الذي حدث يوم واقعة متحف باردو تكرّر رغم أن المجتمع المدني ومختلف الهياكل الفاعلة في الإعلام انتبهت آنذاك إلى وجود خلل ما في المقاربة وانتشر الحديث عن دورات تدريبية خاصة بمجابهة المخاطر والكوارث وعن معدات واستراتيجيات عمل لكن كل ذلك ذهب هباء منثورا وظلت حليمة في عاداتها القديمة، تتسابق الصحف والإذاعات خصوصا عبر وسائطها الالكترونية إلى نشر معلومات متضاربة فتتهاطل على الناس عشرات السيناريوهات المختلفة وتضيع الحقيقة، ويبدو الشخص المسؤول عن نقل الرواية الرسمية لوسائل الإعلام بمثابة المتهم  في القرجاني أمام هيئة محققين لا صحفيين تُجابه أقواله بأقوال وتكذيبات يتحصن أصحابها بعبارة: علمنا من مصادرنا!.

أما الحقيقة الثالثة فتتمثل في أن تونس أصبحت بلدا ينبغي أن تتوقع فيه الرصاص في أي مكان، في أي لحظة، تحت أي مسمى، هناك أطفال انبطحوا على الأرض في قاعات الدرس ثم هربوا تاركين كتبهم وأشياءهم وأغلقت المدرسة أبوابها بعد انتشار قوات مقاومة الإرهاب في محيط الثكنة، هؤلاء الأطفال وغيرهم يعيشون واقعا جديدا مختلفا عن واقعنا نحن الذين كنا لا نرى زخّات الرصاص بهذا الشكل العدواني الغريب السافر الا في أفلام الأكشن. هذا التطبيع مع العنف القاتل يستوجب ثقافة أمنية جديدة وتهيئة نفسية خاصة ومن العيب مداراتها والالتفاف عليها تحت داعي الحفاظ على صورة تونس في الخارج والخوف الساذج على السياحة التونسية، الحرب مع الإرهاب بمختلف أشكاله وصوره حرب طويلة المدى ينبغي أن نتوقع فيها كل شيء وعلينا مواجهة هذه الحقيقة بشجاعة كبيرة.