الحبيب الصيد رئيس الحكومة التونسية

الحبيب الصيد رئيس الحكومة التونسية

المشهد ذاته تقريبا تخيله منذ سنوات قليلة علاء الأسواني في روايته عمارة يعقوبيان، يقف الطالب المتفوق أمام لجنة من الضباط لدخول أكاديمية الشرطة، فلا يشفع له نبوغه لأنه ابن حارس عمارة ولا يحق له الانتساب إلى الشرطة. وقد لا ينتبه كثير من القراء والمتفرجين في غمرة الأحداث الكثيرة المتشعبة التي تفيض على جانبي الرواية إلى العداء الرمزي الذي نشب بين هذا الشاب بعد أن انتمى إلى الإخوان المسلمين والشرطة ممثلة في شاب آخر لا يختلف عنه في العمر لكن من الواضح أنه قادم من “وسط محترم” على حد عبارة وزير العدل المصري المخلوع في الواقع. لم يختر هذان الشابان مصيرهما، كل ما حدث أن الانتماء الطبقي حدّد لكل واحد منهما دوره في مسرحية الحياة: فجعل أحدهما ضحية والآخر جلادا، وينتهي الاثنان قتيلين في معركة ينبغي لكل طرف فيها أن يلغي الآخر.

يحدث هذا في الخيال ويتجسد ما يشبهه في الواقع، هناك في مصر التي يرى بعض السّاسة هنا في تونس أنها غادرت حديقة الربيع العربي وتركت شعبنا يرفل لوحده في غابةٍ أزهارُها تخلب الأنظار تحت سماء ديمقراطية لا يعكر صفوها شيء غير بعض الأحداث المتفرقة التي تبدو بلا قيمة تُذكر لدى صاحب السعادة من فرط لامبالاته بها، كالاحتجاجات الموسمية في الجنوب والمناطق الفقيرة المهمشة وهي تعيد بقوة إلى الواجهة متلازمة الديمقراطية والتنمية. نحن إذن أمام نموذجين مختلفين، هناك في القاهرة أغلق العسكر قوسي الربيع العربي وزجّوا بالإخوان في السجون بعد أن حملتهم الصناديق إلى السلطة، وهنا في تونس انتقال ديمقراطي يتعايش فيه الحزب الإسلامي القادر على تغيير جلده كلما اقتضى الأمر مع الدولة العميقة وسائر مكونات المجتمع، لكن هناك في ظلّ الدكتاتورية العائدة بقوة يستقيل الوزراء أو يقالون “احتراما للرأي العام”، وهنا في ظل الديمقراطية الناشئة لا يستقيل الوزراء ولا الرؤساء ولو سلح عليهم جمهور الفايسبوك ولو أصبحوا أضحوكة أو طراطيرَ، يتوهم البعض منهم أن استقالته من منصبه ستؤدي إلى انهيار الجمهورية على رؤوس الناس وكأنه المحور الذي تدور عليه دواليب الحكم. والاستقالة الوحيدة التي حصلت كانت بتوقيع وزير التربية في حكومة الترويكا، وهي استقالة كان يمكن أن توضع هي أيضا في كتاب غينيس للأرقام القياسية إلى جانب منجزاتنا التنموية الأخرى كأكبر علم مفروش في الصحراء وأكبر عصير برتقال فهو تقريبا الوزير الوحيد في العالم الذي ظلّ يزاول عمله في الوزارة وهو مستقيل دون أن يعرف أحد ما إذا كان مسؤولا عن قراراته في تلكم الفترة أم لا؟!

استُقيل وزير العدل المصري، وهو اشتقاق لغوي جميل يصف حالة من تُفرض عليه الاستقالة حفاظا على ماء الوجه، ولم يُستقَل أي وزير عندنا رغم الحماقات الكثيرة المتكررة، والحالات القليلة التي اضطرّ فيها الحاكم إلى تسليم الأمانة والهبوط من كرسي العرش كان ثمنها باهظا جدّا ولم تكن في كل الأحوال تعبر عن احترام الرأي العام بقدر ما كانت فرارا من جحيم مفتوح على مصراعيه، كذلك فعل حمادي الجبالي عند اغتيال شكري بلعيد  ومن بعده علي العريض بعد اغتيال محمد البراهمي، وكأن التداول على السلطة لدى هؤلاء لا يحتكم إلى معايير الإخفاق والنجاح في قلب معادلات التنمية والرفاه التقليدية وإنما في حاجة دائمة إلى قرابين بشرية. وقد اعترف مؤخرا المنصف المرزوقي وهو يرمّم ما تهدّم من تمثاله السياسي والحقوقي بأنه كان ينبغي عليه الاستقالة من منصبه عندما كان رئيسا مؤقتا للجمهورية لكن هذا الاعتراف المتأخر لا يزيد الرأي العام الا إحباطا إزاء عقلية التشبث بالسلطة التي لا يختلف فيها الحكام الجدد عن سابقيهم، فلا اختلاف بين قوله ذلك وقول بن علي في اللحظات الأخيرة “غلطوني”، ولا يضيف شيئا قوله وهو خارج السلطة “كان ينبغي أن أستقيل” الا المزيد من المرارة والسخرية.

يستقيل الوزراء في العالم المتحضر لا لأنهم مسؤولون بشكل مباشر على ما يحدث في وزاراتهم ولكن لأن مسؤوليتهم السياسية والأخلاقية تقتضي ذلك، فالاستقالة في حالات كثيرة رسالة إيجابية من الحاكم إلى المحكوم، ويمكنها في الوقت المناسب أن تنزع فتيل الأزمة قبل اشتعالها. والمتابع للشأن السياسي والاجتماعي في تونس بعد مضي مائة يوم من انتصاب حكومة الحبيب الصيد يمكنه أن يتبيّن بسهولة أنها في حاجة إلى استقالات كثيرة في وزارات لم يرق أداؤها إلى النجاعة المطلوبة، لكن التعنت ومعالجة الأخطاء بأخطاء أفظع لا يزيد الأزمات الا استفحالا، لا يختلف في ذلك قول وزير التربية في حكومة النداء للممنوعين من اجتياز امتحان الكاباس “تو نرجعولكم الخمسطاش دينار”؟؟! عن قول وزيرة المرأة في حكومة الترويكا وهي تعضّ بالنواجذ على كرسي الوزارة: اشربوا ماء البحر…!، فلا عزاء للتونسيين في طبقة كاملة من المناضلين خيبت أمل الناس في السياسة والديمقراطية وجعلت بعضهم يغبط في سره الرأي العام المصري الذي أقال وزير العدل لحماقة ارتكبها في برنامج تلفزيوني وما أكثر الحماقات التي نتجرّعها يوميا.