Mosquée Ez-zitouna 04حدثني أحد الأصدقاء قال:

بعد رحيل بن علي اعتلى المنبر في المسجد الذي كنت أصلي به الجمعة رجل لا أعرفه، لم أسأل عن مآل الخطيب السابق فقد كان واضحا أنه أجبر على البقاء في البيت بعد أن عصفت به رياح لم يتهيأ لها.

تكلم الخطيب الجديد يومها فارتجل الكلام ارتجالا، ونظم الدعاء بطلاوة آسرة، كان صوته يعلو وينخفض، يسرع ويبطئ، يتلون ويتموج فانشدّت الأنظار إليه من أول كلمة نطق بها إلى أن أقام الصلاة، وما هي إلا أن فرغ الجمع من الركوع والسجود والدعاء فاستقبلهم الإمام الخطيب قائلا يا عباد الله، لقد بلغنا من الإخوة المصلين اقتراح بأن نُغــيّر وقت هذه الصلاة فنجعلها في الواحدة بعد الزوال فما قولكم؟

اشتدّ اللغط في المسجد وعلا هرج المصلين استنكارا لهذا الاقتراح، فقد حرص تنظيم المساجد منذ “العهد البائد” على أن تُصلى الجمعة في وقتين مختلفين: عند دخول الظهر وعند نهايته فتتصل بصلاة العصر وهو الأنسب في القيظ، وكان المرء يختار الوقت المناسب بحسب مهنته إذ لا تعطل أعمال الناس أيام الجمعة في تونس المحروسة إلا مساء خلافا لما هو سائد في الشرق.

ولما بدا واضحا أن الأمر لا يحظى بإجماع الحاضرين قال الإمام الجديد: لنحتكم إلى رأي الأغلبية، أو ليست تلك هي الديمقراطية، وليرفع يده كل من يرغب في تغيير وقت الصلاة في هذا المسجد! لكن الهرج تزايد واللغط اشتدّ وامتنع الحاضرون وكانوا بين جالسين وواقفين عن استفتاء الإمام، فما كان منه إلا أن صاح من جديد: يا عباد الله لا يجوز هذا اللغط في بيت العبادة، لنترك الأمر كما هو ولنؤجل النظر في اقتراح الإخوة إلى حين.

توقف صديقي قليلا ثم قال: وفي الأسبوع الموالي تغير وقت الصلاة وارتفع أذان الجمعة في الواحدة بعد الزوال، فانقطعت عن هذا المسجد الجامع وصرت أقطع عشرات الكيلومترات بحثا عن الصلاة الثانية ولم يتيسر لي سماع خطبة أخرى لهذا الإمام الخطيب إلا في مناسبتين اثنتين علقتا في بالي وكانتا الدافع الأكبر لحديثي هذا.

ازداد شوقي لمعرفة الحكاية بعد أن خلت أنها بلغت النهاية فاستسلمت لحديث الصديق وأصغيت بانتباه، قال: عدت إلى ذلك المسجد مرة في عطلة عيد الأضحى، يومها رفع ذات الإمام يديه إلى السماء متضرعا في خاتمة الخطبتين: اللهم عليك بالعلمانيين، شتت شملهم وأبد نسلهم… فتملكني خوف شديد من أن تفلت مني كلمة آمين وأنا أعتبر نفسي رغم مواظبتي على الصلاة أحد العلمانيين. أما الخطبة الثانية التي حضرتها إثر ذلك فكانت القطرة التي أفاضت كأس صبري، لقد فوجئت يومها بأذان واحد يرفع للجمعة ولم يخرج أحد كعادته لينبه المصلين بأن من لغا لا جمعة له كما درجت العادة في المساجد التونسية وعلمت آنفا أن رفع الأذان ثلاث مرات هو في المذهب الوهابي بدعة عثمانية وكل بدعة ظلالة وكل ظلالة في النار، وأن هذه البدعة قد ألغيت من هذا المسجد ، ليس هذا مهما فقد كانت خطبة الإمام يومها  أشبه بكابوس لم أفق منه حتى الساعة، لم يقتصر فيها على الدعاء على العلمانيين بل أضاف فيها حديثا عن الجهاد والجهاديين وبرأ نفسه من حث الشباب على الجهاد في سوريا لأن تونس على حد قوله أولى بجهاد شبابها، وقال لا فظ فوه: ينتظر العلمانيون منا أن نعود إلى السجون ويعودوا هم إلى سدة الحكم هيهات هيهات، لن يكون ذلك إلا أن تغرق البلاد في بحر من الدماء، فغايتنا التي لن نتنازل عنها هي تحكيم شرع الله طال الزمن أم قصر.

عند هذا الحد سكت صاحبي سكتة طويلة، خلت أنها استغرقت دهرا وأضاف: لقد سألت عن ذلك الإمام وعن الملّة التي ينتمي إليها فقيل لي إنه من أحد التيارات الإسلامية المعتدلة ! وهو معروف بانتسابه إلى الجناح الأكثر تشددا داخلها ! أما عن مستواه العلمي فهو لا يتجاوز الثالثة من التعليم الثانوي.

قلت لصاحبي لعلك قد انتهيت بمغادرة هذا المسجد الجامع إلى غير رجعة فالأئمة الخطباء تتباين مستوياتهم وتختلف، لكنه رمقني بنظرة تحمل أكثر من معنى: لقد أحدثت في خطب ذلك الرجل ندوبا عميقة لم أبرأ منها بعد، لقد احتقرت نفسي جالسا بين يدي ذاك الإمام ومن هم في درجته ونوع تفكيره فلعله أن يكون قاتلي من غير أن أدري لقد فقدت الرغبة في الصلاة وأخشى أن ينتهي بي الأمر إلى ما لا تحمد عقباه.