عامر بوعزة

عامر بوعزة

شرّفني صديقي الروائي حسن بن عثمان بذكري خلال الحوار الذي أجرته معه الصريح، والذي تطرق فيه إلى مرحلة كُـنّا فيها معا في قناة تونس 7 خلال فترة تولّي السيد عبد الله عمامي الإدارة العامة للقنوات التلفزية، وقد لفت نظري حرصُه على عدم الوقوع في فخّ السؤال وعدم الانسياق بذكاء وراء شهوة الاعتراف والتداعي للتفريط في وقائع وأحداث لم يحِنِ الوقتُ بعد للخوض فيها وعرضها على أنظار العموم.

إنّ الترفع في هذه المرحلة بالذات عن ذكر مسائل هي من الماضي،  والاتجاه قدما إلى الغد بدل الهرولة إلى البارحة وما فيها من أحداث غير مكشوفة لعامة الناس، هو بمثابة الواجب الذي يمليه علينا إحساسُنا بأنّ الثورة الشعبية لم تنته بعد ولم تبلغ مداها، ولن نستسلم حتما وبسرعة إلى التقاعد الفكري المُبكر والبطالة الإبداعية، وننزوي كما يُـرادُ لنا في ركن قصي لاجترار ذكرياتٍ قد لا تهمُّ أحدا بدلَ الانخراط في صياغة أجندا المستقبل وتصوّر مختلف أبعاد المرحلة.

ولا شكّ أن مراجعة ما شهدته سنوات حكم “بن علي” من مدّ وجزر بين شتى المتناقضات، هو من مشمولات الدارسين والمؤرخين والباحثين المتخصصين الذين تقع بين أيديهم وثائقُ ونصوصٌ تخوّل لهم بحق فرزَ الصالح من الطالح والحابل من النابل، ولن يُجديَ نفعا اجتزاءُ كلام حسن بن عثمان واقتطاعُه من السياق للاستدلال على وجود علاقة ما بيننا أنا وهو وآخرين والسيد عبد الوهاب عبد الله الذي كان كثيرٌ ممن أعرفهم يقضون ساعات طوال واقفين بطريقة مضحكة في ردهات لجان التنسيق للظفر بنظرة منه أو مصافحة عابرة لما كان له من تأثير في قرارات التعيـين والعزل في مؤسسات الإعلام.

أولئك الذين انقضوا على اسمي المذكور في حديث حسن بن عثمان عن توظيف القصر الرئاسي لرجال الإعلام في سياق تصفية حسابات وزارية، لا يهمهم الماضي بقدر ما يُخيفهم المستقبل، وليسوا يذرفون دموعا على حرية مسلوبة بقدر ما يسدّون أبوابا يخيّل لهم أن خطرا سيتدفق منها، وهذا ما يمكن أن يكون بحق التفافا على أولويات اليوم ومجابهة رجعية انتهازية لتسونامي الثورة وارتداداتها الطبيعية، وهي لا تعدو أن تكون محاولات صبيانيةً ساذجةً لتحويل الأنظار عن المتربّحين الحقيقيـين من العهد السابق والذين لم تطلهم حتى الآن أدوات المحاسبة ومشتقات “من أين لكم هذا ؟”.

هواة القراءة الانتقائية لم يروا في ماضينا سنوات البطالة القسرية والفريقو والإبعاد والتهميش والإهانة والمنع والمضايقة والعقاب والنسيان والتسويف وتجاهل المطالب المشروعة ومحاصرة كل محاولة للتنطع بأدوات التحفظ الإداري، بل   سلّطوا كشافاتهم على نصف الكأس الذي يساير أهواءهم ويسهل عليهم الادّعاء بالباطل في غفلة من “كبار الحومة” المنصرفين إلى العمل بدل الغوغاء، إنهم صالحون لكل العهود ويريدوننا أن نكون جاهزين في كل العهود لنكون أكباش فداء، هؤلاء يتمنون أن يكون جهاز الحكم الجديد على درجة من السذاجة والارتباك حتى يستأنس بهم في استصفاء الكفاءات وترشيح الأكثر نقاوة من “المناعة الوهابـية المكتسبة”.

ولست أشكّ في أن ذكاء حسن بن عثمان هو الذي حرّضه على الإفلات من قبضة السؤال والتفصّي منه تعاليا على كل ما يمتّ إلى الذاتي بصلة في سياق الانتصار لثورة الحق على الباطل واحتراما لبرنامجها التاريخي المديد، وقد كان حواره في الصريح – حتى وإن لم يقل كلّ شيء ولم يفتح دولاب الحقيقة على مصراعيه- ضروريا للتعبير عن حال المبدع والإعلامي في فترة تاريخية فيها جوانب مضيئة باهرة وفيها جوانب أخرى سوداء معتمة، وسيكون من النفاق والزيف أن يسارع البعض في إطار حملة التطهّر الذاتي إلى نسف عقدين من الزمن بقبضة يد والوقوف على طريقة سوبرمان بجانب الأطلال الخربة، فلقد كانت في العهد السابق محاولات جادّة من الداخل لخلق هامش حرية إعلامي ومساحة للمناورة تحت غطاء الميثاق الوطني، ولكن الرياح لم تكن لتجري دائما بما تشتهيه السُّـفنُ، وإنه لمن الواجب الأخلاقي ومن النبل اليوم أن نعترف بشجاعة رجال مقربين من السلطة كانوا بين مطرقة القصر الرئاسي وسندان الواجب وشرف المهنة، وشيئا فشيئا فرّطت فيهم السلطةُ لتجد نفسها محوطةً بالانتهازيـين والوصوليـين والسُرّاق والجهلة حتى حصل ما حصل.