freedom-of-expression-1rubdo1خلال السنة التي سبقت رحيله والتي اصطلح على تسميتها بالسنة الدولية للشباب قرر بن علي  بطريقته الخاصة “إضفاء المزيد من الديمقراطية على المشهد السياسي والإعلامي”، وأعطى الإذن بإجراء حوارات مباشرة مع الوزراء يحضرها ويشارك فيها المواطنون.

عند التنفيذ تحولت الفكرة إلى واحدة من أقوى المسرحيات الكوميدية التي يمكن أن يشاهدها المرء إطلاقا، مواطنون مسيّسون حدّ النخاع متنكرون في أثواب الناس البسطاء في قاعة مسرح يتصدّرها الوزير وأعضاده وأسئلة معدّة سلفا في مطبخ التلفزيون. وبعد الحلقة الأولى مباشرة أدرك الجميع أن لا منفعة تُرجى من ذلك، وأن دار لقمان باقية على حالها.

الأهمّ من هذا، كيف تفاعلت الصحافة المحلية مع هذه المسرحية الكوميدية؟

نقرأ في صحافة تلك الأيام مقالا صدر في جريدة الشروق بتاريخ 31 جويلية 2010 عنوانه :”حوارات الوزراء التلفزيونية إضافة نوعية إلى الديمقراطية وإلى أشكال ممارستها” وفيه يمتدح الكاتب هذه الحوارات ويعتبرها ” شكلا راقيا من أشكال الديمقراطية بما هي إنصات لمشاغل الناس ..وتفاعل معها من خلال توفير المعلومة وإيضاحها مع السعي إلى حل الإشكاليات..لتجاوز النقائص وتدعيم المكتسبات وتحقيق الأهداف الآنية منها والمستقبلية. وهذا ما أراده سيادة الرئيس زين العابدين بن علي بدعوته الى تأثيث برامج حوارية تلفزيونية بين الوزراء والمواطنين“، ويخلص في خاتمة مقاله الذي لم يسجل فيه أي نقطة سلبية تذكر إلى القول:” ينبغي علينا الإقرار بأن هذه الحوارات جاءت لتأمين التواصل المباشر بين المواطن والمسؤول ولتيسير الوصول الى المعلومة، إضافة الى الكشف عن برامج نشاط الوزارات الحالية والمستقبلية وليس لحلّ بعض الاشكاليات الفردية، فنحن في نهاية المطاف أمام إضافة نوعية الى الديمقراطية والى أشكال ممارستها. “

وبتاريخ 27 أوت 2010 صدر في صحيفة الصباح التي يملكها آنذاك محمد صخر الماطري مقال يتناول نفس الموضوع عنوانه “البلاد فيها الخيرات السبعة“، في هذا المقال استحضر الكاتب قصة حمة الجريدي الشهيرة وكيف غيّر أهل الجريد أقوالهم أمام الباي وقد كانوا ذهبوا إليه بنيّة الشكوى من سوء الحال وقلة ذات اليد لكنهم ما إن وقفوا بين يديه حتى قال كبيرهم : يا سيدي البلاد فيها الخيرات السبعة!. استهزأ هذا المقال بوضوح من الحوارات التلفزية المفبركة وخلص إلى القول:”وانتظرنا أن يكون في هذه الحوارات خلاص الوزراء من خطاب التقارير الإدارية المختومة بأن يكون كلامهم أمام الشعب أفصح من كلامهم أمام نوابه وأن يسهم أطراف الحوار في تحريك سواكن أولي الأمر منا فيتجاوزوا شعارات الإنجاز إلى جوهر المشكلات ولكن يأبى البعض الا أن يستكثر علينا آمالا مشروعة علقت على بادرة طيبة أجمعنا على تثمينها فكان أن وضعت الفكرة على ثرائها في قالب صدئ وإطار ضيق لا يسمن ولا يغني الا أصحابه“.

أستحضر هذا النموذج المقارن لأؤكد حاجتنا جميعا إلى دراسة رصينة ومتأنية للإعلام خلال ثلاثة وعشرين عاما من تاريخ تونس، دراسة منصفة تُستخدَم فيها الوثائقُ والشهادات الحية والاعترافات، وهذا ما يتجاوز طاقة “الكتاب الأسود” ويتفوق على أهدافه الضيقة، هناك حالة تونسية خاصة مليئة بالأسرار والتناقضات لا بدّ أن يتم تفكيكها قطعة قطعة في سياق تحليل علمي هادئ، نحن في حاجة اليوم إلى فهم عميق للعلاقة بين الإعلام ونفوذ العائلة السياسي وكيف استطاعت مؤسسات بلحسن الطرابلسي وصخر الماطري الإعلامية أن تحتكر لنفسها جرأةً لا يمكن إنكارُها حُرم منها لعقود طويلة أبناء القطاع العمومي حتى تجمدت أطراف بعضهم في الثلاجة وفاز آخرون بحياتهم المهنية مع أول طائرة ذاهبة إلى الخليج، وانخرط بعضهم في الجوقة الموسيقية ونسي البعض الآخر أبجديات الصحافة ناهيك عن ميثاقها.

وضع الإعلام في ظل حكم بن علي أعقدُ من أن يكتب فيه كتاب أسود صيغ على عجل بما تبقى من وثائق ربما تركها هناك مستشارو الرئيس السابق ولم يتلفوها (وقد كان بإمكانهم ذلك) لعدم أهميتها أصلا!

أما وضع الإعلام بعد الثورة فيزداد تعقيدا، وربما يحتاج هو أيضا إلى وضع كتاب أبيض في “غير المغضوب عليهم ولا الضّالين” للإجابة عن نفس السؤال الذي ظل ابن القارح يطرحه على كل من صادفهم في الجنان: “بم غُـفِر لك؟”.

أليس من المضحكات المبكيات أن يكون صاحب مقال الشروق اليوم أحد كبار المسؤولين عن الإعلام في حكومة علي العريض، بينما يوضع اسم كاتب مقال الصباح في الكتاب الأسود!!