الفرد عصفور

ديوان شعر على الطريقة الحديثة. قطع صغير وصفحات غير مزدحمة. والشعر نفسه على الطريقة الحديثة المرسلة بدون قوافي الا اقل القليل. ولكن بالقراءة المتأنية يمكن لمن يحاول الاصغاء الى الصوت الداخلي في القصائد ان يجد موسيقى حزينة تنتظم كل النص من الصفحة الاولى الى الاخيرة.

يلفت النظر في هذه الاشعار ذلك الاستحداث الغريب لربط ما هو جماد بما هو صاحب روح اي  المادي والمعنوي. شعرت ان الشاعر في بعض القصائد، الاولى على سبيل المثال والتي حمل الديوان عنوانها: غابة تتذكر احزانها، ان الشاعر يحمل في نفسه حزنا دفينا وتساؤلا ينم عن شعور يمكن وصفه بانه الاحساس بالغبن. هناك تكرار جميل لكلمة من بعدنا وهذا التكرار في رايي يعبر عن حنق الشاعر على الحالة التي يتحدث عنها. حالة من التعب والحزن والغبن والانكسار الى جانب حالة من العشق والذوبان والنوستالجيا للماضي الجميل…. لكنه الماضي الذي لم يحدث.

في قصيدة اخرى يكثر الشاعر استخدام فكرة المرايا. حيث يرى فيها البحر والنخيل والشهوات… تلك هي تونس الجميلة.

وفي قصيدة ثانية يتحدث عن شيخوخة الضوء والمطر. طبعا الضوء والمطر اذ يختلطان في ليالي الشتاء  الباردة فانهما يعطيان خاصة للشاعر ايحاء رائعا يفتح القريحة ويجلب الذكريات…   وهنا نوستالجيا الاب وكذلك الام. نوستالجيا حيث يمر الوقت طويلا وربما مملا. لا اعلم ان كان الشاعر فقد اباه صغيرا او كان ابوه صغيرا عندما توفي ولكن القصيدة توحي بشيء من هذا.  فحالة الحديث عن الاب حيث كشف المستور تعيدنا الى التحليل النفسي وتشي بنوع من المعاتبة الخفية للأب…   وفي النهاية يرى اباه او يتمنى ان يراه في الملكوت. وهنا بعض الاسقاط الروحاني.

في قصائد اخرى تحمل هما وطنيا يربط الشاعر بين حزيران وقرطبة والشتات الفلسطيني. حزيران بما يوحيه من هزيمة قسرية اصابت الامة العربية وقرطبة التي  كانت زهرة مدائن الاندلس وشتات الفلسطينيين في اصقاع الارض. فيرى، وربما باستهزاء من الفكرة، ان طريق القدس تمر عبر اوسلو. وهذا ايحاء مسبق باستمرار الهزيمة.399977_2682166887936_187873314_n

اما استحضار بعض الشخصيات الكبيرة من الثقافة المعاصرة فكان مثالها في هذا الديوان الشاعر القومي خليل حاوي اللبناني الذي انتحر حزنا على ما الت اليه اوضاع الامة. وفكرة رحيل الشاعر فكرة طالما راودت الشعراء. فالرحيل فكرة شاعرية في حد ذاتها لكنها رحلة من القدر الى القدر. وياتي بعدها استحضار التاريخ عبر رسالة الغفران. ليس اي تاريخ بل التاريخ الفكري الفلسفي الحزين من خلال استذكار المعري.  وما تسقطه الفكرة على الواقع الراهن….. او القريب.

ماذا يقول الشاعر في انتحار خليل حاوي؟ انه تحدي الموت وغرابته. الاثار الجميلة في اختيار توقيت الموت انتحارا فهو اسرع موت.  لكنه عند الشاعر هنا موت بطيء من اجل ان يمر على كل الصور التي اراد الشاعر ان يظهرها. بدء من بيروت وانتهاء الى جنة الشاعر .. صنين ، بيروت الرمز الذي اختاره. موت بطيء شهده المتنبي وجبران وكذلك ابن الرومي وابو العلاء. يحاول الشاعر تقمص فكرة الانتحار التي مارسها خليل حاوي رفضا للغزو الاسرائيلي للبنان وللتخاذل العربي التي ترك بيروت لمصيرها.

ما الذي يجمع الفولغا مع المسيسيبي وبردى….  بردى الذي جف ماؤه ونضب ؟  هل هو رمز هنا؟  يتعامل الشاعر مع مياه هذه الانهار على انها بحار فلا يابه بحورياتها ولا بكنوزها بل يسعى الى نايه التي تعبر عن حزنه لكي ينتحر عزفا  بدل ان ينتحر برصاصة كما فعل سفير قطر في تونس في نفس العام الذي انتحر فيه خليل حاول وللسبب نفسه.

يتحدث الشاعر عن كلمات الناي وليس صوت الناي. عندما الناي تتحدث بكلمات لا يفهمها غير صاحبها بينما الاخرون يسمعون مجرد الحان فالامر يكون وصل نهايته مع الشاعر الذي يشخصن الناي لتكون سلواه وسلوانه ياسا من الواقع.

بشكل جميل يخلط الشاعر الماء بالصحراء. والحوريات بالناي خلافا لمنطق الاشياء الذي يربط الحوريات بالماء والناي بالصحراء.  يربط ايضا الفقراء بالقديسين والبحار بالانهار وكلها ثنائيات جميلة لكنها في الواقع تعبر عن حيرة الشاعر الى ان يصل الى حافة اليأس، فيتحدث عن الحفل الذي يتنكر فيه الماء (كيف) وتوزع فيه الصحراء (كيف) ويصادر فيه قلب الشاعر (ايضا كيف) ولاجل التوضيح نراه يستعير بيت شعر من رسول حمزاتوف: لا نركع الا لشيئين ان نقطف زهرة او نشرب من ماء العين.

تعاطفت هنا مع الشاعر الحائر بين الانهار والبحار بينما تلهو الحوريات مع الاطفال وروح البدوي  / الشاعر معتقلة في محارة (وكانه بانتظار الحورية لتفك اسره ) اما جل اهتمامه فهو الناي يحلم به حتى في الاعتقال ويقدمه على الحرية.

مع ان الشاعر ليس بدويا وربما كان من بدو البحار حيث تونس على البحر لا ادري، ولكن روح البداوة تستمر معه من خلال فكرة الخيمة المتشققة لا يتذكر منها الا الثقب الخامس. ويبدو ان الثقب الخامس هنا سيظل سرا في قلب الشاعر الذي يستمرفي سعيه الى ان يقطف زهرته ويشرب من عين الماء.

فكرة اخرى طرقها الشاعر لفتت نظري هي فكرة الجنوب والجنوبي متمثلا الشاعر الراحل امل دنقل. ولكن عن اي جنوب يتحدث؟ جنوب لبنان؟ ام فكرة الجنوب بشكل عام. ففكرة الجنوب فكرة مطروقة بما تمثله من ظلم يقع على سكانه وفقر يعمهم  وحزن يلف قلوبهم اذ هم مهملون من قبل الجميع. خلط جميل يخلطه الشاعر هنا بين سورة يس وعشتار…   وفي النهاية يستسلم الجنوبي كما حاله دوما للذكريات التي تغذيها جرعة خمر تذهب العقل لكنها تؤجج الاحاسيس والمشاعر.

كثيرة هي الاستعارات الجميلة في الديوان. ففي قداس عراقي يقرن كبرياء الاطفال بالصلاة. وبعدها لا شيء يتغير مع انه لا شيء ايضا يدوم عل حاله.  ثم فجاة كل شيء يتغير اذ يسقط الثلج على جبل الوقت.  جبل الوقت؟ تعبيرغريب لكنه جميل ومثير للخيال. استخدام المفردات المتناقضة طريقة  يتبعها الشعراء للفت الانتباه الى ما هو عميق في صدورهم للتعبير عن الحيرة والغضب والحنق والقهر. فالشاعر وان استخدم اقوى الكلمات واصعب التراكيب واشد المفردات قسوة فان في جوفه قلب طفل رائع يرى الاشياء بظاهرها ويصدق الواقع كما يراه وعندما يصدم يحقيقة ما يرى …. يبقى طفلا ويعبر كما يعبر الطفل…. صراخ صوت عالي ربما بكاء ومن ثم نكوص الى ركن يستجلب ذكرياته ويغلق في احلام يقظة.

اعجبتني العودة الى الريح فهي تذكر من خلال حروف كلماتها بما يعرف عن عودة الروح. الاحياء. الرجوع الى الصبا، الى الشباب وما يتميز به من اندفاع يعبر عن الحيوية التي يبدو ان الشاعر يحن اليها بعد ان استهلك اكثر من نصفها….. يتباهي بمعرفته النساء لكنه بانتظار القطار…. اي قطار.. ربما كان يخشى ان يكون القطار فاته.

في قصيدة تباين يستخدم الشاعر عبارة صهيل العينين ويكثر من استخدام الصهيل. والصهيل للحصان والحصان رمز القوة الرجولية يخاطب بها عينين عميقتين الى الحد الذي يفقد عند التحديق فيهما …. ذاكرته….  او ربما ذكوريته؟؟؟ وفي قصيدة اخرى يصف نفسه بانه حامض حتى الموت. لا ادري ما هي معاني الحامض في الثقافة التونسية ولكنها في المشرق مشتقة من الحموضة وهي حالة اذا اصابت طعاما فمعناه غدا غير صالح ابدا. فهل يتحدث الشاعر هنا بهذا المعنى مما يدل على الخراب الكبير الذي لحق به او سيلحق به؟

على اي حال، في بداية  القراءة للديوان يشعر القارىء وكأنه امام ديوان شعر قصير وقصائد قليلة وملامح شعرية بسيطة. ولكن عند القراءة المتأنية والتفكير العميق يجد القارىء نفسه امام عالم واسع وذكريات بعضها مؤلم ونوستالجيا تذكر بالطفولة وبالاب وبالموت يتخللها ذكرى تجارب غير مكتملة مع الحوريات (عدم واقعية الحوريات ربما تدل ان تلك التجارب لم تقع اصلا وان كانت مجرد سياحة فكرية).

لا يجد القارىء بين سطور تلك القصائد اي تسلية او فرح او حتى دعوات للفرح. بل دعوات للتفكر والتدبر. فهذا العالم الذي ولدت القصائد من عمق تجاربه عالم صعب قاس مؤلم لا يرحم.  من حروب الى موت الى انتحار الى تجارب حب فاشلة واحلام يقظة  متعبة. كل هذا كان خلاصة رحلة حياة عبر  عنها الشاعر بكلمات كنت اتمنى  لو استطاع صياغتها بوزن وقافية مثل شعراء الماضي ولكن يبدو ان الحياة العصرية غلبت تلك الامنية.