معلقة إشهارية

معلقة إشهارية

أصدر الإعلامي عامر بوعزة مؤخرا كتابا شعريا عنوانه”غابة تتذكر حزنها” وقد ضم الكتاب جملة من القصائد التي شكلت فضاء لمناخات شعرية مختلفة رغم طابعها المنكسر…فنصوص عامر بوعزة التي جمعها في هذا العمل نصوص حزينة عموما تنهل من الحلم الرومنطيقي وتقتنص التعب اليومي من المدينة المعاصرة و تغمس غضبها في المدونة الشعرية العربية الرافضة…إنها قصائد نتبين فيها مناخات عديدة لعل أبرزها مناخ الحلم ومناخ الغضب الشعري ومناخ المدينة المعاصرة.

  • مناخ الحلم

يحاول الشاعر أن يكون رومنطيقيا حالما فينهل من الطبيعة وصورها الشعرية العميقة ويعود أحيانا إلى الطفولة وهي مرجع ذو صلة بالتجربة الرومنطيقية لما فيها من براءة وحلم شبيه بالحلم الرومنطيقي الصافي الذي لم تعكر صفوه الحياة لهذا نعثر على الكثير من المقاطع التي تحيلنا على صور الرومنطيقيين ومغامراتهم الحالمة وهذا ما يلوح لنا في بعض الأمثلة التي  نختار منها ما ورد في القصيدة الأولى التي حملت عنوان المجموعة حيث تحضر الأنهار والضحكة والمرايا

“عندما أتدفق كالنهر بين يديك

تذوبين في ضحكة

وتصيرين أحلى مرايا الحنين”

ص13

كما تحضر الغيوم والعرائس والأمطار

“الغيوم عرائس مشدودة بخيوط الندى

المدينة

أنشودة بجناحين من مطر وحنين

وأنا فوق هذي الغصون

متعب

متعب

وحزين”

ص16

ونعثر على نفس هذا المناخ الرومنطيقي الحالم في قصيدة طفولة الصفصاف ومنها قوله

“كأنه ظل طفولتنا المشتهاة

وصوت النواقيس في غابة الحلم

توقظ كل الرعاة

سمعنا على السفح وقع حذائه

لكننا لم نره”ص75

لكن هذه المناخات الحالمة سرعان ما تضيع في زحام الواقع اليومي والزمن المتغير والجراح العربية المثخنة

  • مناخات الرفض الشعري

تخيم ظلال الشعر العربي الحديث على هذا العمل فجملة من قصائد الشاعر تبدو في حالة تفاعل مع قصائد وتجارب شعرية معروفة وهو نوع من تذكر هذه الهامات الشعرية التي تعتبر من  رموز الشعر العربي الرافض للواقع حيث تميزت تجاربها بنغمة غاضبة تتحدى الواقع والخطاب العربي السائد ومن هذه الأسماء سميح القاسم ومحمود درويش وأمل دنقل و محمد البقلوطي وقد احتفى عامر بوعزة بهذه الأسماء في نصوص مختلفة ومنها:

*-“مشهد خلفي لما حدث”وهو نص كتب على هامش أمسية محمود درويش وسميح القاسم في المسرح البلدي المعروفة بأمسية الوداع عقب اتفاقيات اوسلو ولكن القصيدة تحولت إلى موقف فالشاعر ضم ضميره إلى الراحلين الفلسطينيين وعبر عن حالة المرارة ولمح إلى تلك المرارة الفلسطينية عقب فرض الاتفاقيات عليهم

“نودع

عمان بيروت تونس

أسماء تغريبة الدم عن جرحه الأول

مرايا لتهذيب أرائهم في معارك طلابنا

تتصادم فيها القذائف والايديولوجيا

سماء مقاه شوارع

تكفي لإقناع عصفورة من فلسطين

أن الشتات شتات

وان الطريق إلى القدس يبدأ من ثلج أوسلو

ص37

*-رسالة الغفران من خليل حاوي إلى بيروت

يستعيد فيها حادثة انتحار خليل حاوي عقب حصار بيروت

“ليست المرة الأولى التي يقتحم فيها الغرباء مرايانا

ويتجولون في أزقة أصواتنا

ولكنها أول مرة يموت فيها الشعراء

دون أن يستأذنوا السلطات

كان الموت يطل على بيروت من الشرفات

ص41

-*الجنوبي الجنوبيون ذكرى أمل دنقل

قصيدة يستعيد فيها قصيدة أمل دنقل الشهيرة المعروفة الجنوبي” ويقول في مطلع هذه القصيدة

الجنوبي

في رئتيه غبار المعارك

ريح الصنوبر

الليل يسحبه من يديه الى أول الماء

ماذا يغني لعشتار

لو جاء قبل الأوان ولم يجد الباب في قفله؟

*-العودة الى الريح ذكرى محمد البقلوطي” وهي القصيدة التي يتذكر فيها الشاعر الراحل محمد البقلوطي ويقول في مطلعها

“ها قد ارتحلت من يديك الطيور

ومن شفتيك

أغاني الرعاة القديمة

ها انت ذا قاحل الخطو تمضي

وحيدا بلا نجمة

أو نشيد” ص101

والملاحظ في هذه النصوص إن استدعاء هذه الأصوات الموسومة بأصوات الرفض لم يكن لمجرد مدحها أو استعادة نصوصها ولكن الشاعر استمد منها مناخ الرفض والثورة والتمرد الذي عرفت به وحاول توظيفه للتعبير عن مواقفه الشعرية فهذه الأصوات كانت مدخلا لقصائد غضب جديد…

  • مناخ المدينة

يشكل الهامش اليومي مكونا هاما من مكونات الصورة  عند عامر بوعزة حيث يحضر مناخ المقاهي والسجائر والكؤوس والمحطات في جملة من القصائد فغابة الشاعر تحتضن كل هذه اليوميات والفضاءات  وسنختار نموذجين لهذا التوجه أولهما من قصيدة” المعطف البدوي الذي كنت” وهي القصيدة التي تحضر في سطورها السجائر والصحف والنساء والمحطات ولوز السكارى وغير ذلك من علامات اليومي

“تأتي القطارات

تمضي الحضارات

والمعطف البدوي الذي كنت

يسند ظهره للريح

حين تذوب النساء الوحيدات والسائحات

وباعة لوزالسكارى..”.ص108

اما النموذج الثاني فنلتقطه  من قصيدة” شيخوخة الضوء والمطر “حيث حلاقة الذقن و القهوة والتبغ و”البار”

في الصباح

كان يحلق ذقنه

يشرب قهوته في الممر

ويترك في غرفة النوم

رائحة التبغ

والبحر

يرهقه الدرج المتآكل

البار

الندل الطيبون

ويفرحه ان يرى

فاتنات يسرن على عجل”

ص24

هذا اليومي المتناثر في هذه النصوص الشعرية يفتح النص الشعري على نوافذ مختلفة من الحياة منها الشخصي الذاتي ومنها ما يعتبر محرما حتى كأن النص الشعري يبحث عن معانيه في مختلف الأرجاء وهو يرافق الذات الشاعرة أينما حلت…في المنزل والشارع والفضاءات العمومية…وبذلك يسير الشاعر في النمط الشعري الذي يستمد شعريته من اقتناص صور اليومي وهي ظاهرة غزت الشعر العربي والتونسي الحديث الذي فر إلى المحطات والمقاهي والحانات وهو ما يمكن أن نسميه شعر المدينة العربية الحديثة…ذلك أننا في الشعر المعاصر نجول بين مناخين شعريين مناخ المدينة بما فيه من حافلات وقطارات ونزل وحانات ومقاهي ومناخ البادية الذي ينزع فيه الشعراء إلى تصوير المظاهر البدوية والريفية ويحافظون على نوع من المحافظة وهو موضوع سأعود له لاحقا.