مع الشيخ إمام عيسى

مع الشيخ إمام عيسى

كم أعذرهم اليوم وأفهم أولئك الذين يفتتحون صباحاتهم بقراءة الجرائد بدايةً من صفحة الوفيات. يفتتحون صباحاتهم باستراق النظر من وراء تلك السطور الصغيرة ناحيةَ ذلك الثقب الغامض الذي يبتلع حبّات العنقود الواحدة تلو الأخرى، دون رأفة، ودون أن يُسْمَعَ صَوْتٌ لارتطامها بأيّ قاع….
*
أشهد أنّي تعلّمت هذه “العادة” منذ رحيلك يا شيخ. كنّا نرقص حولك وبك وفيك مثلما ترقص الفراشات مع الربيع. كنتَ الدليل الحيّ على أنّ الخطاف الوحيد يستطيع أن يصنع ربيعًا بحجم الكون، شرط أن يكون لهذا الخطاف اسمك. لا أدري لماذا أذكر الربيع كلّما ذكرتك، أنت الذي لم أسمع له صوتًا إلاّ وهو مضمّخ بحشرجة العمر في خريفه. كنّا أطفالاً ثمّ اشتدّ العود وذهب بنا الشباب مذاهب شتّى ونحن نستمع إليك وحدانًا وجماعاتٍ خفيةً ومتظاهرين…كنّا نضع شرائطك تحت معاطفنا حيث توضع الممنوعات كي لا تلتهمها العيون التي لا تنام، فإذا بَلَغْنَا مَأْمَنًا اختلينا “بك” مجتمعين خاشعين صاخبين في تلك الحلقات الحميمة الشبيهة بالصلوات…ثمّ خرجتَ من قفصك ورأيناك واختلفنا إليك ووضعنا أيدينا في يديك…وكنتَ بين هذا وذاك تتحدّانا بطفولتك ومرحك ودفئك وشبابك من أعلى سنواتك الستّين ثمّ السبعين…كنت أكثرنَا شبابًا أيّها الشيخ…أكثرَنا ربيعًا ودفاعًا عن الربيع فيما كانت أحلامنا تتجعّد داخلنا وتهرم وتشيخ…وها أنت إلى اليوم لم تَعْلُ أغانيكَ شعرةٌ بيضاء واحدة…فكيف استطعت أن ترتكب هذا الرحيل؟؟ وأنا…كيف هان عليك أن تتركني وحيدًا أو أكاد؟ كيف هان عليك أن توقظني من حلمي بلقائك قبل أن أصدّق أنّه حدث بالفعل؟ كيف استطعت أن تغافلني وترحل بعد أن صنعت منّي مدمنًا على فنّ نَفَقَتْ سُوقُهُ أو تكاد، فنّ يزوّج الجمال إلى الحريّة ويَجِدُّ بِلَعِبٍ ويجرؤ على الموقف ويأبى إلاّ أن يطير بجناحي المتعة والمعنى؟

ثمّ كيف استطعت أن تروّضني على أسوأ العادات: قراءة الجريدة بداية من صفحة الوفيات، خشية أن أُفْجَعَ في حبيب آخر، في حبّة أخرى من حبّات العنقود، تمامًا مثلما فُجِعْتُ فيك وأنا أقرأ جريدتي ذات صباح قبل ثمان سنوات…عزائي أنّك تولد أبدًا في كلّ أغنية من أغانيك، مع كلّ مريدٍ جديد يأخذه فنّك إلى “خلوتك” المفتوحة على شوارع الدنيا كلّها…فما أمكرك أيّها الشيخ…ثمّ ما أمكر الفنّ الصادق العظيم…ثمّ…
… ما أمْكَرَ المَيَّتِينْ
يَسْبِقونَ هُنَا أو هُناكْ
ويظلّونَ في مَوْتِهِمْ كامِنِينْ
خَلْفَ مُنْعَطَفٍ في دروب الهَلاكْ
يَرْقُبُونَ لِحِينْ
فإذا شَرَّدتْنَا القُرَى
أوْ رمتنا الشِباكْ
حَمَلُوا نَعْشَنَا
ومشوا في جَنازتنا ضاحِكينْ… 

*
كم أعذرهم اليوم وأفهم أولئك الذين يفتتحون صباحاتهم بالخوف. يتفقّدون العنقود من وراء دخان السيجارة ورشفة القهوة وخشخشة الصفحات…ستائر يتدارون بها عن العيون كي لا تداهمهم في هلعهم اليوميّ ذاك…هلع يتقاسمونه عن بعد، في شكل صومعات من العري والهشاشة يسكنها كلّ منهم دون أسلاك تربط بين هذه وتلك…
*
أين أنت الآن يا معلّم؟ هل تذكر لقاءنا الآوّل في قفصة؟ انتهى الحفل وتَرَكَتْ أغانيك المكانَ لحفيف الرياح تداعب جريد النخل. كان المكان مضمّخًا بروائح الجنوب وكنّا نقول أشياء لتأثيث الفضاء ككلّ من يخاف الصمت في حضرة من يحبّ. وكنت أنت تسمع وتهزّ جذعك ذهابًا وإيابًا مثل من ينصت إلى إيقاع داخليّ بعيد…فجأة ارتفع صوتك بإحدى قصائدي وكنت سمعتني أقرأها في الأمسية…ثمّ سألتني في حياء معتذرًا عن أيّ خطأ قد تكون ارتكبتَه في حقّ القصيدة؟ وكأنّ لمثلك أن يعتذر لمثلي؟ وكأنّي لم أكن مستعدًّا لرؤيتك تخطئ في القصيدة كلّها وفي أمّها وأبيها إذا لزم الأمر شرط أن أسمع كلماتها تُشرِق من بين شفتيك؟ ثمّ أسرعتَ تمازحني معلنًا أنّك عثرتَ أخيرًا على “والدك” في تونس…سألتك كيف؟ فأجبتني: “القصيدة عنوانها يا ولدي، وأنت أبونا آدم أليس كذلك؟ عليك أن تناديني من اليوم بـ…يا ولدي…” وضحكنا حتّى مطلع الفجر…
كم أحببت بك الدنيا لحظتها يا شيخ؟ كم وقفت على المسافة الفاصلة بين العمالقة والأقزام: هشاشة الروح والقدرة على الخجل والقدرة على الضحك والقدرة على الدهشة والحبّ والاعتذار والعطاء…
*
كانت تلك قصّة “مولد” أغنيتك التونسيّة الأولى…ثمّ تتالت الأغاني وتتالت الأماكن وتتالت اللقاءات وتتالت الدروس…لم يكن لي من شغل أهمّ من ملازمتك كلّما احتضنتك تونس، ملازمةَ المريدِ شيخَه…جبنا البلاد طولاً وعرضًا…نمنا في بيوت الطيّبين وفي الفنادق وفي السيّارات…أكلنا على قارعة الطريق وفي المطاعم الصغيرة ومستندين إلى جدار…لم أسمعك تذمّرت يومًا ولم أرك شكوت…
كنّا نقطع مئات الكيلومترات أحيانًا فتلحّن الأغنية ضاربًا بكفّك على ركبتك منصتًا إلى موسيقى داخليّة لا يسمعها غيرك، فإذا بَلَغْنَا مقصدنا أخذتَ العود فامتحنتَ عليه لحنك…وقد أعلمتني بعد ذلك انّها طريقتك الخاصّة في تلحين أغلب أغانيك، ثمّ همست لي ضاحكًا “إنّها طريقة الذين يخافون إزعاج الآخرين”…هكذا علّمتني أنّ الفنّ لا يحفر في الروح والعقل والجسد إلاّ إذا كان ثمرة الروح والعقل والجسد…كنت تلحّن بجسدك كلّه لا بالعود فحسب…كنت تلحّن بلحمك ودمك أيضًا…لذلك كانت أغانيك أكثر من أغانٍ نضاليّة أو سياسيّة أو فنيّة…كانت أغانيك فنًّا شعبيًّا قريبًا من ذاك الذي أفلح سيّد درويش في تأسيس انطلاقته المشرقة: فنّ يصالح بين الغناء المتقن والغناء الشعبيّ…كان سيّد درويش قد توسّل إلى تلك المصالحة بالموهبة والمعرفة، أمّا أنت فقد توسّلت إليها بهذا ثمّ بلحمك ودمك…لقد جعلت من “جسدك” جسرًا بين العامّة والنخبة، فإذا بأغانيك شيء آخر تستجيب له الأرواح والعقول والأجساد، لأنّها “تحسّ” بأنّه قادم منها، مضمّخ برائحتها وإيقاعها الذي لا تعرفه أغاني “السوق” اليوم…
كم أنا سعيد بتلك اللحظات معك يا شيخ… لحظات أكاد أمسكها باليد الآن فأرى لها طعمًا ولونًا ورائحة لا يعرفها سواي…صُوَر تؤثّث روحي وتضمّد أحلامي وتلملم شظاياي…تغيّر الزمن وغادَرْتَ قَفَصَيْكَ الأصغرَ والأكبرَ فكن للجماهير ما شئت. ستظلّ تلك الصُور من ممتلكاتي الخاصّة التي أستطيع أن أفخر بأنّي أحتفظ بها لنفسي بأنانيّة لا أستحي منها، فماذا يملك الواحد منّا في هذه الحياة غير بعض الصُوَر وبماذا يخرج إن لم يكن ببعض الصُوَر وماذا يترك غير بعض الصُوَر؟
*
كم أعذرهم اليوم وأفهم أولئك الذين يشترون الجريدة في الصباحات، يتّخذون مكانهم المألوف من المقهى حيث يطلّون من وراء البلّور على الشارع وهو

الشيخ إمام في بيت الفاضل ساسي بقفصة

الشيخ إمام في بيت الفاضل ساسي بقفصة

يتمطّى وينفض عنه ثوب النوم، ينصتون إلى زعيق السيّارات تزعج العصافير في أعشاشها الدبقة، وينظرون إلى سيقان الرائحات ترشو تجاعيد المدينة بالجمال. تتنهّد النهود وتترادف الأرداف وهم يسترقون النظر بشراهة من يمتحن نفسه ليرى إن كان لم يمت بعد، وإن كان في نفسه الأمّارة بالشهوة بقيّة باقية من الحياة. يطلبون قهوتهم ثمّ يشرعون في قراءة الجريدة بدايةً من صفحة الوفيات، كي يبدؤوا أيّامهم بالاطمئنان على أنّ المنجل لم يحصد منهم اسمًا آخر، وقد اجتازوا الخطّ الافتراضيّ الذي يفصل بين أكثر الحياة المدبر وأقلّها المقبل…
*
أمّا أنت فلم يكن يخيفك الموت ولا كنت تحفل بحديث الموت. عرفتَ مبكّرًا وبالفطرة أنّ الحياة صمت تؤبّده الكلمات، فاخترت حريّتك ومنحتها صوتك وأوتارك واتّخذت لها الشعر أنيسًا يشهد على اللحظة ويخترق بها الأزمنة والمسافات…غنّيتَ الحبّ والصبر ونفاد الصبر…غنّيتَ العشق والمقاومة…غنّيت الفرح والدموع…غنّيتَ انكسار الأحلام وضرورة التمسّك بالأحلام حتّى وهي إلى انكسار…غنّيتَ التلامذة وعمّ حمزة والعمّال والفلاّحين والطلبة وغيفارا وهوشي منه والصعيديّ عبد الودود وفرحات حشّاد التونسيّ وجميلة الجزائريّة وابنة العشرين الفلسطينيّة والأديب الأدباتيّ وآكل الفول وآكل اللحوم البشريّة…لم يكن الإنسان بعيدًا عنك حيثما كان…عرفت كيف تطيح بذلك “الجدار” الخاسر الفاصل بين النضال والفنّ لأنّك لم تر فاصلاً بين إنسانيّتك وفنّك، لم تسقط في فخّ الإنسان المشروخ المقسوم إلى فنّان من جهة ومواطن من جهة أخرى، إلى آلة حاسبة من جهة وآلة كاتبة من الجهة الأخرى، لم يكن الفنّ في نظرك تعاليًا بالضرورة عن واجبات المُواطَنة…كنت ترى في كلّ ألمٍ ألمك وفي كلّ أمل أملك وفي كلّ قضيّة عادلة قضيّتك…هكذا استطعت (كما لم يستطع غيرك) أن تغنِّيَ الحياة بأبعادها وأن تحفر في الذاكرة وأن تؤالف بين المتناقضات من المثقّف إلى الأمّي ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار…
*
لم تتعامل مع شعراء كثيرين…رفيق دربك نجم وعدد قليل من الكبار بيرم وفؤاد قاعود وفؤاد حدّاد وتوفيق زياد…لقد فهمتَ مبكّرًا وبالفطرة أنّ التجربة الفنيّة لابدّ لها من “فريق عمل” أساسيّ، لابدّ لها من “عمود فقريّ” كي تتفرّد بملامح ومذاقات خاصّة…كان هذا أحد دروسك وواحدًا من دروس سيّد درويش والرحابنة وغيرهم من الكبار.
كما تعلّمتَ مبكّرًا بالفطرة ثمّ بالتجربة والإنصات إلى الآخرين أنّ للمبدع تجلّيين: المستوحد والحادي…أمّا المستوحد فينصت إلى فجيعته ويوغل في الضباب ويطلّ على ما يسمّيه سيوران “الهُوِيّ الحميمة”. إنّه كشّاف يفتح الطريق بعيدًا عن الكوكبة ليس له في الوحشة من مؤنس غير وقع خطاه. فيما يرافق الحادي القافلة ويصاحبها في حلّها وترحالها شاهدًا محفّزًا مؤنسًا مهمومًا بما يهمّها متعرّضًا إلى ما تتعرّض إليه من تيه إذا تاهت أو نَهْبٍ إذا نُهِبَتْ وطلع عليها أنواع الشطّار والعيّارين…
يحلّق الفنّ بجناحين: جناح المستوحدين وجناح الحداة.
ولا يعدم المستوحدون الصادقون أن يتواصلوا مع الكوكبة وإِنْ بصعوبة، وإِنْ بعد حين، حين تلتحق بهم القافلة حيث هم وتكتشف ما كان خافيًا منهم…كما يمكن للحداة الأفذاذ أن يخترقوا لحظتهم وأن يكونوا كائنات عابرة للتاريخ…
كم تحدّثنا في تلك الليالي الطويلة عن الفنّ والأدب وكم خضنا في الشعر والشعراء…كنت أقرأ عليك أشياء عديدة معتذرًا بأنّها غير صالحة للغناء…وكنتَ تستزيدني غير حافلٍ برأيي وكنتُ أحبّ أن تخالفني الرأي…حدّثتك عن أبي نواس وبودلير ورامبو وجبران وسان جون بيرس والشابّي وأراغون ونيرودا وريتسوس وطاغور وجلال الدين الرومي والسورياليّين…قرأت عليك الكثير من شعر البرغوثيّ شاعر العاميّة التونسيّ…قلت لك إنّ هؤلاء الشعراء وغيرهم على اختلاف تجاربهم هم أهلي وأثاث روحي وإنّي أراهم يشتركون في الكثير وأرفض أن تكون الأغنية بعيدة عمّا أنجزوه وعمّا تمّ إنجازه في الشعر بعامّة. كان ذوقي “الغنائيّ” قد استبدّت به نهائيًّا تجارب مجنونة، تجارب جورج براسينس وليو فيري وجاك برال وبوب ديلان وبوب مارلي وغيرهم من فنّاني الجاز والأوبرا والغناء الشعبيّ…وأشهد أنّي كنت أوشكت على اليأس نهائيًّا من “الأغنية العربيّة” لولا بعض الأغاني، من بينها أغانيك وأغاني الرحابنة ومارسيل خليفة  وخالد الشيخ والكثير من الأغاني الشعبيّة…(لم يكن لطفي بوشناق قد أشرق في سمائي بعد)…وأذكرُ أنّك كنت تسأل وتستفسر وتوافق وتعترض…ثمّ ذكّرتني ذات ليلة وكنّا في طريقنا من جبنيانة إلى قابس، بعبارة وردت في حوار لنا سابق، وكأنّها لم تغادر ذاكرتك على امتداد الأيّام والأسابيع:
“يحلّق الفنّ بجناحين: جناح المستوحدين وجناح الحداة.
الأوّل يُقرَأ والثاني يُغَنَّى. أليس هذا ما قلتَ لي ذاك اليوم؟”
ثمّ أضفتَ بصوتك المنغّم النفّاذ الذي عسّله “المعسّل” وعتّقته السنوات:
“أنا معك، لكن ما رأيك في من يجمع بين المستوحد والحادي، فيُقْرَأ ويُغَنَّى في الوقت نفسه. خذ مثلاً هذه القصيدة…” وقرأتَ عليّ رائعة الكبير فؤاد قاعود:
الشجرة بتخضرّ
لو عشّش فوق منها
عصفورة وعصفور…
كم اخضرّت أرواحنا بأغنيتك تلك ونحن نحلّق بها في برامج صديقنا حبيب بلعيد. لم يكن بين يديك طيلة حياتك حقل كبير من هذا الشعر الذي يطير بجناحين لا ينفصلان، لكن يكفيك أنّ الكثير ممّا غنّيته يصحّ فيه رأي شوقي حين وصف شعر بيرم بالخطر الكبير على الفصحى…
قال شوقي ذلك بعيدًا عن الخصومة بين العاميّة والفصحى، وبعيدًا عن تفضيل العاميّة على الفصحى. قال شوقي ذلك تثمينًا لعاميّة بيرم وتحفيزًا لهمّة “الفصحاء” كي يعتنوا بلغتهم أكثر:
ـ لأنّ عاميّة بيرم أخذت أجمل ما في العربيّة، وخلّصتها ممّا ترهّل فيها، وممّا أبقت عليه أو عادت إليه مدرسة الديوان في ذلك الوقت من حذلقة وثرثرة بلاغيّة.
ـ لأنّ شعراء العربيّة في ذلك الوقت كانوا في الأغلب على صلة بالبلاط أوبالاستعمار، وفي مثل تلك المراحل تصبح العاميّة عنصرًا من عناصر المعارضة الشعبيّة.
ـ لأنّ العاميّة استطاعت في ذلك الوقت أن تجد نقطة التماهي مع روح العامّة: السخرية والنكتة، التي خلا منها الشعر العربيّ الفصيح، إلاّ حين كان الفرق متقلّصًا بين لغة الشاعر ولغة الشارع.
وكأنّي بك خبرت هذا كلّه يا شيخ، فأين تعلّمته؟ ومن أيّ كونسرفاتوار سريّ تخرّجت كي يصبح الشعر بك، وأنت”الضرير”، عيونًا تعمّقُ رؤية المبصرين؟؟
*
كم أفتقدك اليوم يا معلّمي…وكم أوشِكُ على اليأس لولا أنّي أشمّ رائحتك في حفنة من الذين سلكوا الطريق كلّ من جهته: توائم روح تناثروا هنا وهناك أجد في صداقتهم أو في إبداعهم ما به يقتات الأمل وما به يَصْدُقُ الفرح… يجمع بيننا الأفق نفسه والهشاشة نفسها، والخوف على النار الأخيرة وعلى سرّاق النار الأخيرين، وأنّنا عرفنا أصدقاءنا وعاكسنا صديقاتنا وعشقنا زوجاتنا وأنجبنا أولادنا وبناتنا على إيقاع أغانيك…
أَنْظُرُ إلى ابنتي اليوم فأسأل على إيقاع أيّ الأغاني سيتعارف أبناء جيلها ويعاكسون ويعشقون ويتزوّجون وينجبون؟ على إيقاع هذه الأصوات (السياط) العجيبة؟ على إيقاع هذه الرقصات (القرصات) الشبيهة بأعراض الصرع؟ على إيقاع هذه الكلمات (اللكمات) الغائبة عن العالم، دافنة رأسها في اللاشيء كما تدفن النعامة رأسها في التراب؟ على إيقاع هذه “الجديد” التي يكاد يجبرنا على “الكفر” بكلّ جديد والتنكّر لأنفسنا نحن عشّاق الحريّة المجانين؟؟
ماذا فعلوا بنا بعدك يا شيخ…ماذا فعلوا بنا بعدك؟؟
لكأنّي بك “تنظر” إليّ الآن من أولمبك مبتسمًا محرّكًا جذعك مثل بندول ساعة من لحم ودم تشير عقاربها إلى زمن عابر للزمن، ولكأنّي بسيّد درويش وعاصي الرحباني عن يمينك وعن يسارك، وربّما كان من حولكما بيرم والشابّي ونجيب سرور وناجي العليّ وحسين مروّة وجان دمّو وغسّان كنفاني وغيرهم، ولعلّكم تطلّون علينا من بعيد وتسألون: ما الذي يحدث باسم الزمن الجديد؟ سقط جدار برلين فهل تحرّر العالم؟ سقط الأطفال شهداء فهل تحرّرت فلسطين؟ سقط التمثال فهل تحرّرت بغداد؟ رحل الشيخ إمام فهل يعوّضه شعبان عبد الرحيم؟ ولعلّكم لا تفهمون بعد كلّ ما غنّيتم وكتبتم وفكّرتم وناضلتم وضحّيتم، كيف لم تتحرّر العقول وكيف لم تنهض الشعوب وكيف عادت الأرض إلى قانون الغاب وكيف زهق الحقّ وكيف عجز المواطن عن سكنى وطن؟ ولعلّ أحدكم تجرح أزهارَهُ الدموع ويذهب به الظنّ كلّ مذهب، فيدفعكم إلى السؤال إن لم يكن معنى هذا كلّه أنّكم فشلتم في “مهمّتكم”؟ وأنّ فنّكم ومبادئكم ومناهجكم فشلت في قراءتنا وتغييرنا وتغيير واقعنا المزمن؟ قل لرفاقك ألاّ يخافوا يا شيخ…قل لهم إنّ الأرض الصلبة قد تتأخّر بالزرع لكنّه لابدّ أن يزهر…قل لهم إنّ عثرات الطريق ليست حجّة على خطأ الطريق…نحن أيضًا نبكي هنا لكنّنا لا نجد لدموعنا زهورًا أفضل من أغانيكم…لن تصبح العبوديّة أفضل من الحريّة ولن تصبح القوّة مصدر الحقّ ولن ينسحب فكر المقاومةِ أمام فكر الاستسلام…لتطمئنّ قلوبكم يا شيخ ففي ورثتكم وأحفادكم بعض العزاء…هم قِلَّةٌ أي نعم، قِلَّةٌ من “الواقفين” في مستنقع “الانبطاح” هذا الذي يحاول أن يحبس الأرض في زريبة، لكنّهم سيكثرون ويتكاثرون…سيحلمون وتنكسر أحلامهم فيحلمون…سيحاولون ويفشلون ويحاولون، كلّ في مكانه وكلٌّ على طريقته…سيخوضون “حروب المواقع” كلِّها بكلّ ما لديهم من حِيلة…لن يغادروا الأوطان مثلما تغادر الفئران السفن…ولن يفارقوا العنقود طالمَا ظلّت منهم حبّات ترقص في الهواء مثلما رقصت النجوم طويلاً في كفّيك…
*
كم أعذرهم اليوم وأفهم، أولئك الذين يترشّفون قهوة الصباح ودون أن ينبس أحدهم بكلمة، يلقون نظرة على الجريدة، فإذا طالعهم اِسْمُ صديق أو رفيق كَمَشُوا الجريدة صامتين، وقد مات فيهم شيء، ثمّ حاذروا أن تطفر الدموع من أعينهم خوفًا من أن يُقبض عليهم متلبّسين بجرم الحياة، الحياة بعد الآخرين. فإذا خلت الصفحة من أحبّائهم رقصت قلوبهم في الصدور وكادت تطير،  ثمّ تنفّسوا الصعداء، هكذا دون أن يُشعِروا أحدًا ولا حتّى أنفسهم، يتنفّسون الصعداء في شهقةِ من يسترجع الروح، شهقة تذهب إلى الداخل كي لا ينتَبِهَ إليها أحد، آهة تتخفّى وتنهدّ فيما لسان حالها يقول: لم تنقص من العنقود حبّة هذا اليوم…