التحركات المضادة لنضال الإذاعيين من أجل القطع مع الماضي تدلّ على أن علة العلل في القطاع الصحفي هي انحسار رقعة التضامن المبدئي وتبجيل البعض مصالحهم الشخصية على المصلحة العامة، وهذه الممانعة هي أفضل دليل على أن نظام بن علي ما يزال قائم الذات يتحرك بلا خجل أو وجلٍ في الواقع أو داخل النفوس والضمائر سنة كاملة بعد حدوث الثورة، فالمطالب التي تبنتها النقابة الوطنية للصحفيين والتي يجري التشكيك في مشروعيتها تتعلق بثلاثة محاور أساسية لا مناص منها لإعادة بناء الإعلام العمومي على أسس سليمة: الاستقلالية المهنية والشفافية الإدارية وكرامة الصحفي.

الاستقلالية المهنية لتحصين الإذاعة عن التجاذبات الحزبية والاحتواء الإيديولوجي وحتى لا تعود من جديد بوقا لفائدة هذا الطرف أو ذاك بتنشيط حاستي الخوف والطمع ولا تحنّ إلى دورها القديم في خدمة الدكتاتورية، وهو ما يستدعي وضع أطر ديمقراطية لصياغة القرار التحريري والسهر على تنفيذه.

الشفافية الإدارية لأن الإذاعة بما هي مرفق عمومي ليست في معزل عن رياح الفساد العطنة التي سمّمت الأجواء والنفوس وأفقدت قيمة النزاهة معناها حتى صار هاجس البعض السّعيُ إلى الانتفاع من سوء التصرف لا مقاومته والوقوف ضدّه، فكل التفاصيل المتعلقة بفرص العمل والتكوين ليست من باب النميمة أو الحسد والتباغض وإنما ينبغي أن يُـنظر إليها بمنظار أسمى لأنها تقود إلى فكرة العدالة والإنصاف التي هي الآن همّ وطني شاسع يشترك في المطالبة به التونسيون جميعا.

كرامة الصحفي لأنّ الإعلام العمومي رغم ما يقدمه من جليل الخدمات للمواطنين يظلّ الشماعة المثالية التي تُـعلق عليها النخبة أخطاءها وتنفس بواسطتها عن شعور بالذنب دفين لم تقدر على التحرر منه بطرق سوية في إطار مراجعات نقدية ذاتية، فمن السهولة بمكان القول إن الإعلام هو صانع الدكتاتوريات، وهو في خدمة الاستبداد والفساد، خصوصا بالنظر في البنى التشريعية والإدارية القائمة والتي تيسّر ذلك بل تعبّد له الطريق ولكنه مظهر وحيد من مظاهر الاستبداد وشجرة يتيمة في غابة الفساد، ومن الحيف العظيم استثناء الإذاعة العمومية من حملة الإصلاح والمراجعات العميقة التي تشمل الآن كل شيء، انتصارا لكرامة الصحفي التونسي الذي أثبت دائما كفاءته واقتداره كلما رأيناه يعمل في دول أخرى…

في المقابل وانتصارا لسلطة الأمر الواقع تُجابَه محاور الإصلاح الثلاثةُ هذه بأسلوب بوليسي قديم بغيض يقوم أولا وكما هو معتاد على الثلب للتشكيك في هوية المطالبيـن بإحداث التغيير وجدارتهم بالاضطلاع بهذا الدور استرجاعا لفكرة “الشرذمة الضالة التي ساءتها نجاحات تونس” ولنتذكر هنا كيف كان نظام بن علي يصنع لكل المطالبين باحترام حقوق الانسان ملفات أخلاقية غارقة في الدناءة، وثانيا الدفاع عن الوضع القائم باستعراض المكاسب والإنجازات وتعداد ما تراه السلطة نجاحات تستحق أن تتجنّد لمدحها الأقلام المأجورة، ولنتذكّر هنا كيف كان نظام بن علي يملأ الرؤوس بالحديث عن المعجزة التونسية بينما يعيش الناس في أعماق البلاد الضنك والفاقة والعوز بشكل لا يصدقه إلا من يراه عيانا، ثمّ تُسـوّق صورة “الناجح المحسود” لمناشدة صانع هذا النجاح حتى يتجاهل حسد الحاسدين ويبقى نكاية بهم مدى الحياة سيفا مسلطا على الرقاب، فالاعتراض الهشّ على ما تطالب به النقابة الوطنية للصحفيين لفائدة أبناء الإذاعة العمومية يدافع بكل وضوح عن السياسة المتبعة حاليا في هذه الفترة الانتقالية المنتهية.

خلاصة المسألة أننا نحن الإعلاميين في هذا المجال المحكوم بالتـنافر ورغم دقّة المرحلة كل يغني على ليلاه، فبينما ينظر البعض إلى المستقبل لأن الفرصة مواتية في سياق الانتقال الديمقراطي وتجديد المؤسسات العمومية لتحقيق مكاسب حقيقية لفائدة الإذاعة يصرّ البعض الآخر على التشبث بالماضي رؤيةً وأدواتٍ وأساليبَ، إننا نعيش لحظة تاريخية فارقة لم نكن نحلم بها، فلأول مرة يحدث عندنا ما يحدث في الديمقراطيات العريقة، رئيس للجمهورية يتأهب للمغادرة وآخر يستعدّ للحلول وكذا في مقرّ الحكومة وسائر مؤسسات السيادة الوطنية أما في الإذاعة التونسية فقد اختار البعض مع الأسف أن يجروا بسرعة الضوء عكس التيّار…