الباجي قايد السبسييخلص فقيد الصحافة العربية قصي صالح درويش في كتابه “يحدث في تونس” إلى استشراف مستقبل الأحداث بعد تفاقم أزمة الخلافة سنة 87، فيصنّف المرشحين للفوز بعرش بورقيبة إلى مجموعات، ثم ينتهي إلى القول بأن مجموعة “زين العابدين بن علي والهادي البكوش” هي الأقدر على الإطاحة بالرئيس العجوز بإثبات عجزه عن ممارسة وظائف الرئاسة وتطبيق الفصل 57 من الدستور!!!!

نُشر الكتاب ومنع من التداول في تونس وقد أثبت فيه صاحبه أنّ دلائل عجز بورقيبة عن ممارسة وظائفه السّامية تعود إلى سنة 1973 عندما أقدم في خطوة مُحيّرة على إبرام اتفاقية وحدة مع العقيد معمر القذافي وهو الذي يعارض دائما توجهات جيرانه الوحدوية بشكل استعراضي مرتكزا أساسا إلى عدم نضج أسبابها، وبدا تراجعه عن الإيفاء بالتزامات جربة تلعثما سياسيا مُهينا لمكانة الزعيم التاريخية وبُعدِ نظره الاستراتيجي، لكن لم يكن ممكنا للهادي نويرة أو لمحمد مزالي طيلة سنوات الهبوطِ إلى الجحيم استصدارُ شهادة طبية لإقالة الزعيم من مهامّه بوصفه “صاحب الباتيندة” في دولة الاستقلال لا في الحزب الاشتراكي الدستوري فقط .

وفعلها زين العابدين بن علي!
لكنه ولأسباب تتعلق بالباتيندة وبعقلية القطيع قدّم للجميع تبريرا عاطفيا لما حصل، فهو “قد أنقذ بورقيبة من بورقيبة”، وشكّل هذا التبرير قاعدة دعائية استراتيجية “للعهد الجديد”، فزعموا أنه يقوم على التواصل والاستمرارية لا مع البورقيبية فحسب مع بل مع كل رواد الإصلاح بدءا من خير الدين!! وهكذا صدّق الشعب الذي بلغ ساعتئذ من الوعي والنضج “ما يسمح لكـلّ أبنائـه وفئاتـه بالمشاركة البنّاءة في تصـريف شؤونه” بوعي قطيعي أن الباتيندة لم تخرج من بيت الحزب الاشتراكي الدستوري وأن ما حدث لا يعدو أن يكون عملية ترميم وإعادة طلاء للجدران والأبواب والسقوف، وقد فتحت أثناء هذا الترميم نوافذ للتهوئة تسلّل منها معارضون قدامى ونقابيون ويساريون إلى سدّة الحكم وظلّوا هناك حتى النهاية. وعلى مدى ثلاثة وعشرين عاما لم يتمرّد أحد من داخل البيت على صاحب الباتيندة الجديد رغم الفساد وإرادة التوريث ونكث العهود إلى أن وقعت الثورة وحصل الذي حصل.

rached-ghannouchi1لا غرابة إذن في ظلّ هذه العقلية التونسية الفريدة، أن يُنظّر “مناضلو نداء تونس” للتوافق فهو الطريقة الوحيدة لحماية صاحب الباتيندة وأبنائه وأحفاده من خطر الانتخابات “عافانا وعافاكم الله” ومن إمكانية أن تنتقل الزعامة من المؤسس إلى شخص آخر تتجه إليه إرادة الناخبين “لا قدّر الله”. لم يخرج أحد على سلطة بورقيبة رغم عجزه، ولم يتمرّد أحدٌ على بنْ عَلي رغم فساده، ولن يقول أحد: “لا” للباجي قايد السبسي رغم ما يرتكبه من أخطاء في حق نفسه أولا والحزب الذي قاده إلى الرئاسة ثانيا. لا يقول أحد: لا في وجه الزعيم المؤسس القائد الملهم البطل المنقذ الواحد الأحد!، ولا يختلف في ذلك دستوري عن نهضوي، فهؤلاء أيضا لا يستطيعون الخروج من جلباب راشد الغنوشي مهما كان حجم التنازلات الموجعة والمهينة التي أضحت الحركةُ تقدمها من أجل البقاء، ومهما كانت الصورة الكاريكاتورية التي أصبحت عليها بسبب مفارقات الحكم وإكراهات البراغماتية. الحركة تغيّر مواقفها دون مراجعات علنية واضحة، والصقور الذين كانوا يهدّدون بالسّحل وقطع الأيدي والأرجل لا يستقيلون لعدم انسجام مواقف الحركة الجديدة مع ما يؤمنون به وما قضوا في سبيله أحلى سنوات العمر وراء القضبان، لا يحتجون لا يعلنون صراحة تخليهم عن ثوبهم الإيديولوجي القديم، كل ما في الأمر أن الحركة تتقدّم دائما إلى الجمهور في شكل كتلة واحدة مبهمة، تحتوي صراعاتها في داخل الداخل وتأتمر بأوامر الشيخ الذي يعلو ولا يُعلى عليه!

الوعي القطيعي في تونس وعقلية الباتيندة ليستا حكرا على حزب دون آخر بل ثقافة أصيلة متجذرة ومقاومة لا واعية ومتوارثة للفعل الديمقراطي الذي يُعلي مكانة المؤسسة على الأفراد ويفرض التداول الانتخابي على القيادة، يتشابه في ذلك أكبر حزبين في تونس كما يتشابه الجناحان حقا!