18323154أخيرا فرغتُ من رواية “المرحوم”، فقد استغرقت قراءتها وقتا طويلا رغم أن حجمها لا يتجاوز حجم الروايات المعتاد، لكنّ أمر القراءة لا يتعلّق بالحجم والوقت فحسب بل بالعلاقة التي تنشأ بين القارئ والكتاب، القراءةُ إقامة مؤقتة في عالم الرواية، وكثيرة هي الرّوايات التي يفرغ منها القارئُ بسرعة كبيرة فيغادرها بنفس السرعة، لكنّ رواية المرحوم للروائي المصري حسن كمال ليست من هذا الصنف قطعا.

رواية تطلّ على الحياة من مشرحة كليّة الطب، في ذلك المكان الموحش ترقد الجثث المحقونة بالفورمول، لكن المرحوم يحرّكها ويسامرها ويطهو لها الشاي ويدخّن معها، ومعه نكتشف أن لكلّ جثة اسما وحكاية ورسالة، والمرحوم  مُكلّف بهذه الرسائل وله القدرة على ارتداء الجثث للقيام بهذا التّكليف.

وفي الرواية نصّان، علامات يرويها المرحوم، ومذكرات يرويها محمود سلمان طالب الطبّ الذي التقى المرحوم عندما جاء إلى هذا المكان بحثا عن قصص ينشرها في مجلة الكلية. فينبني السرد على وجهتي نظر متلازمتين في خضم ثنائيات متعدّدة تحفل بها الرّواية وتكسر بواسطتها النظرة الأفقية الواحدة للعالم، هذه الازدواجية تجعلنا نتجوّل في عالم روائي تتداخل فيه الأشياء وتتهاوى الحدود بين الموت والحياة، والعقل والجنون، فقصّة المرحوم تهدم كل الفواصل وتزجّ بالقارئ في متاهة كبرى، من هو المرحوم؟ أهو عبد الحيّ أم سعيد؟ أم روح أخرى ترتدي جسد أحدهما؟ هل يكتب علاماته من عالم الأموات بعد أن تحرّرت روحه إلى الأبد؟ أم هو كائن موجود في مكان ما من هذا العالم؟ تنفتح العلامات بلقطة سينمائية تركّز على صورة الثلاجة مكتوب عليها : “هنا ترقد الأجساد التي ظلّت طريقها إلى باطن الأرض والأرواح التي ظلت طريقها إلى السماء، هؤلاء الذين حرموا من صفة الرحمة لا أحد يطلق عليهم المرحوم، أنا المرحوم الوحيد في هذا المكان”، وتنفتح مذكرات محمود سلمان بعبارة أناتولي فرانس : “ربما يكون الفضول هو أعظم فضائل البشر”، وبين الرّحمة التي يسعى إليها الأوّل والفضول الذي يحرك الثاني تتجوّل كاميرا حسن كمال وتلاحق كل الشخصيات التي تبدأ جثثا محنّطة في مشرحة الكلية لتنتهي قصّة في ذهن القارئ والتباسا بين الأشياء والمتناقضات، القصّة هي التي تنتصر في النهاية: “اختر الأسهل عليك، الأقرب إلى التصديق..لا يهم ما تراه أنت ولا ما أراه أنا ، المهم هو الموجود في هذه الحقيبة”. يشير بذلك إلى الحقيقة التي تظلّ أعلى من البشر والزمن والتي تجعل من “المرحوم” تجربة ذهنية محضا تقع في منطقة  التماسّ بين الواقع والخيال، هناك يتحوّل ذهان المرحوم الذي يعاينه محمود سلمان من موقع طالب الطبّ ضربا من الجنون الخلاّق والإرادة المتوثبة.

رواية المرحوم تستدرج القارئ بشراسة إلى ما يشبه النزال، فالإقامة في تلك المنطقة التي لا يريد الأحياء دخولها مسكونين بالرّعب تصبح تمرينا حقيقيا على معايشة الموت عبر التأمّل، ومثلما يحدث في أفلام الرعب يكفّ الحكي عن الإمتاع، ليفتك الكاتب بطمأنينة القارئ ويحرّره من مشاعر الخوف التي تسكن أعماقه، لكنك وقد استطعت الفراغ منها لن تنكر حتما متانة البنيان الروائي فيها وقوّة اللّغة، وعمق الرؤيا، ولعلّ أوراق الضابط أشرف البشلاوي المضمنة في العلامة الثامنة عشرة قد ارتفعت بك إلى الذّرى وهي تنقل بصوت الاعتراف كوميدياء سوداء تحرّكها أصابع السّلطة في كلّ زمان ومكان كالخناجر في  أجساد المسحوقين من طلاّب الحرية، تلك الصّفحات لعلّها أن تكون من أقوى ما كُتب عن أمن الدولة والثَّورات في مُدوّنة الرّواية العربيّة.