Archive for أغسطس, 2015

الخطر القادم على مهل

أ0_2631صابني هلـعٌ شديد وأنا أكتشف بمحض الصدفة أن “البلطي” مغني “الراب” الشهير يتمتع بشعبية كبيرة لدى فئة عريضة من تلاميذ المدارس الإعدادية اليافعين. وأصابني غَــمّ أشدّ وأنا أستمع إلى بعضهم يفسّر ذلك بأن فنّ السيدة فيروز وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم الذي نعتبره نحن عنوانَ الذوق السليم فيه الكثير من “الكُـبّي” وتـقشعرّ له أبدانُ هؤلاء لأنه يفتقر إلى الإيقاع والجاذبية، وقد تجاوزته الأحداثُ بكثير !!!

إنّ هذه المعاينةَ التي تحتاج إثباتا واستيضاحا وتوسّعا ينبغي ألا تكون مدعاة للتباكي مرّة أخرى بدموع الحنين على الزمن الجميل الذي ولّى وانقضى، بل هي سبب كاف للبكاء بدموع الندم على الزمن القادم. فقد علّمنا التاريخُ أن الشعوب والأمم والحضارات التي تعاقبت على هذه الأرض منذ حدوث الانفجار العظيم وهبوط آدم عليه السلام من الجنة، لم تـبقَ منها إلا فنونُها وآثارُها وعمارتُها وكُتبُها وما بذله الأقدمونَ في سبيل تهذيب الذات البشرية والارتقاء بها وبناء الانسان. ولهذا السبب بالذات رفعت بعض الشعوب المتيقّظة “فيتو” الخصوصية الثقافية في وجه اتفاقية التجارة الدولية بينما كان الوطن العربي يغطّ في نوم عميق مأخوذا بفتوحات العام سام وزعيق الحياة الليبرالية البهيجة

 في غمرة هذا الحلم الأمريكي اللذيذ أصبح شعبان عبد الرحيم بطلا قوميا وأصبح البلطي معبود التلاميذ وأصبحت السيدة فيروز مطربة مُملّة، وصار عبد الحليم حافظ شخصا ثقيل الظلّ لا يُحتمل…

قد تكون ظاهرةُ انتشار أغاني “الراب” لدى جمهورٍ قُدرتُه على التفكير والتمييز والمناقشة ضعيفةٌ ومحدودة، أمارةً على حـقِّ أيٍّ كانَ في أن يقول ما يشاءُ، متى يشاء، أينما يشاء وكيفما يشاء، بل سيجد الأبواب جميعها مفتوحةً أمامه تبشيرا بهذه الحرية التي لا حدّ لها وتيمنا بعطاياها، ولكنّ هذه الحرية العرجاء ليست مربط الفرس ولا بيتَ القصيد.. وهي حرية في كثير من الأحيان مغشوشة لا يُعتـدُّ بها، خادعة ومظلّلة لأنها تعصف بالثوابت عصفا وتعجز عن مقاربة المتغيرات..

فالسياسة الثقافية والاتصالية التي ترفع شعار الحرية ولا تمتلك أدوات التأثير الناجعة للبقاء في المقدّمة، يضمُرُ دورُها الحمائِي والاستباقي الطلائعي أمام قانون العرض والطلب وما يفرزه من مظاهر عجيبة، والحال أن سلطة الثقافة والإعلام في خضمّ هذه التحوّلات محكومةٌ بقانون التحدّي والاستجابة الذي يحدّد مدى توفقِ الثقافة الرسمية في الحفاظ على أسباب بقائها ومقاومة النزعة المتحفية التي قد تكتفي بها أحيانا وهي تراقب أمواج هذا التغيـير الهادر..

ولا يمكن نكران علاقة هذا الاعوجاج الذي أصاب شخصية الفرد القاعدية  بمشاكل العنف المدرسي والرياضي وتتالي الهزائم الكروية وتلاشي الروح المعنوية وتراجع الواعز الوطني، فالفنون ليست بضائع استهلاكية تباع في المهرجانات الصيفية وفي المنوعات التلفزية فحسب، والسلطة الثقافية ليست متعهدة حفلات وصانعة للفرح والبهجة، وإنما هي في قلب معركة ضارية تدافع فيها الأصالةُ عن معناها والفنونُ عن جدواها لأنها مفتاحُ التنشئة الاجتماعية السليمة وعمادُ التنمية البشرية

2010



عَلمتَ شيئًا وغابتْ عنكَ أشياءُ

حنبعلاهتمت إذاعة البي بي سي بخبر العثور في المهدية على جرة من العهد الفينيقي وُجد بداخلها هيكل عظمي، وخصصت جانبا من برنامجها اليومي بي بي سي اكسترا يوم الرابع من أغسطس لإلقاء مزيد من الضوء على هذا الحدث الهام والتوسّع فيه، لكنها اقتصرت على دعوة مراسلها في تونس لمحاورته ولم تستضف للغرض باحثا مختصّا من علماء التاريخ أو الآثار.

قد يكون هذا الأمر عاديا لو اقتصر الحوار على الجانب الخبري وهو ما يفي فيه المراسلون بالغرض عادة، لكن المذيع في لندن استرسل في الحوار وتجاوزَ بالمراسل حدود الإخبار إلى الاستقراء والتأويل وهي منطقة محفوفة بالمخاطر، فسأله إن كان العثورُ بمحض الصدفة على هكذا قطعة يعني أن الدولة مقصرة في القيام بالحفريات اللازمة؟، ولمّا كان مثل هذا السؤال فخّا يتطلب قدرة على المناورة أرهفنا السّمع لنصغي بانتباه إلى الطريقة التي سيتوخاها الزميل في تفنيد هذا الاستنتاج ونستفيد من قدرته على تجاوز السؤال المفخخ دون إحراج السائل، إذ العثور على الكنوز الأثرية بمحض الصدفة عادة ما يكون منطلقا لحفريات جديدة في مناطق غير متوقعة ولا يعني أبدا تقصيرا المؤسسات. ومن ثمة لا توجد منطقيا علاقة سببية مباشرة بين الخبر والاستنتاج، لكن المراسل لم يُكذِّب، بل استرسل في شرح مظاهر التقصير في التنقيب عن الآثار ورعاية التاريخ في بلاده!إذاعة بي بي سي

لا شكّ أن المذيع قد طرح سؤاله ذاك وهو تحت تأثير الضجيج الصادر عن تونس وهي تعيش في الغليان، فلا أحد يعجبه شيء هنا مطلقا، وتنتشر شظايا هذا التذمر الوطني حتما عبر أدوات التواصل الاجتماعي الالكتروني الذي جعل العالم أرضا مسطّحة، لكنْ عجبًا من ذاكرةِ الزميل وقد اعتراها الوهنُ، وأيُّ وهنٍ هو، سيّما وقد تعلّق الأمر بأحداث وقعت في السابق، قبل سقوط النظام. وقد كنا نودّ لو تفضّل بالإشارة ولو لمامًا إلى مشروع الخارطة الوطنية للمواقع الأثرية والمعالم التاريخية الذي انطلق العمل فيه وفق قانون وضع منذ بداية تسعينات القرن الماضي ويشهد بوضوح على أن جهد المعهد الوطني للتراث في هذا الصدد يشمل مختلف بقاع الجمهورية ولا يُميّز جهة عن أخرى كما ادّعى الزميل في ردّه على السؤال.

لكم نتمنى أن يكون هذا مجرّد خطأ في التقدير، فالزميل ثامر الزغلامي علاوة على خطته الوظيفية في الإذاعة التونسية يراسل بانتظام إذاعة البي بي سي في لندن وراديو مونت كارلو في باريس، ويفترض فيمن يتصدّى لهذه المهام الصعبة في آن معا أن يتوفّر على قدرات خارقة. أما أن يكون خطأ فذلك أفضلُ طبعا من أن يكون عزفا على وتر الخراب وتبنيا لنظرية العدم التي لا يعترفُ أصحابها بأي شيء إيجابي تحقق قبل مجيئهم إلى ساحة الحكم بعد الرابع عشر من جانفي، وهي رذيلة أخرى نُنزّهُ الزميل من أنْ يكون قد وقع فيها أيضا.




Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress