مقالات رأي

الرئيس والعجوز التي تطبخ الحصى

419865769_771191828372753_3104266210440610333_nتذكرني زيارات السيد الرئيس إلى (مناطق الظل) بحكاية عمر بن الخطاب مع العجوز التي شاهدها تطبخ الحصى لأطفالها الجوعى حتى يناموا بلا أكل، رغم اختلاف الخاتمة! فالفاروق كما تنقل كتب التراث لم يهدأ له بال ليلتها قبل أن يطعم الأطفال الجياع أكلا حقيقيا (جلبه من بيت مال المسلمين)، لكن زيارات الرئيس اليوم تنتهي كما بدأت وذلك لثلاثة أسباب على الأقل:
أولا: في غياب المشاريع الحقيقية للتنمية والمنجزات التي يمكن تدشينها برأس مرفوع وأياد ثابتة، لا تحمل رئاسة الجمهورية إلى هذه المناطق في كل زيارة إلا المزيد من الوعود والشعارات وعبارات التفهم والمواساة، فتبدو هذه الزيارات غير المعلنة وكأنها مخصصة لإقناع الفقراء بأنهم فقراء، وطمأنتهم بأن الدولة تعرف أنهم فقراء، لكنها قبل إخراجهم من الفقر، منشغلة بمعاقبة أولئك الذين كانوا من وجهة نظرها سببا في فقرهم، وعليهم أن يصبروا (أن يسمعوا صوت الحصى في القدر) حتى تقضي الدولة على دابر الفساد، وتزج بآخر الفاسدين في المرناقية، ونصبح -بحول الله- مجتمعا فاضلا يعرف كيف يقف بانضباط في الطوابير الطويلة التي لا تنتهي أمام الإدارات والمخابز!
ثانيا: لأن الصور في هذه الزيارات تصاحبها سمفونية عجيبة هي خليط من شعارات التأييد والمطالب والتضرعات، يقابلها الزعيم (برحابة صدر وتفهم) فيؤكد، وينفي، ويشدّد، ويهدّد، ويعد ويتوعد، وهو ما تلخصه قبضة يده أمام الكاميرا في أكثر من مشهد، والضجيج بوصفه سيّد الموقف هنا لا يسمن ولا يغني من جوع، بل يستنتج منه أن الشعب والدولة (كل يغني على ليلاه). فمطالب الجمهور مادية ملموسة لا يخجل معها البتة في أن يتضرع للرئيس من أجل الحليب والزيت والسكر، فضلا عن الشكاوى الفردية والخاصة التي لا يمكن حلها إلا (حالة بحالة) والتي تدل بوضوح على انعدام الثقة بين المواطنين وأجهزة الحكم المحلية…، فيما يطمئن الرئيس مخاطبيه عن انتخابات المجالس المحلية التي ستعطيهم آليات صنع القرار والثروة! ولا يعرف أحد شيئا عن شكل هذه الثروة ومصدرها (خليقة وإلا صنيعة)!
ثالثا: يغيب عن ذهن الرئيس وأنصار (البناء القاعدي) عموما من المريدين الحقيقيين (وهم قلة قليلة)، والمفسرين والانتهازيين وضاربي البندير في وسائل الإعلام (وهم كثرة كثيرة) أن هذه الحشود التي تهب لاستقبال الرئيس أينما حل وتسمعه ما يحب أن يسمع من عبارات التأييد، والتي يسميها (الشعب) هي نفسها التي تهب لاستقبال أي رئيس.. فلم يسجل تاريخنا إلى الآن شيئا عن رئيس أو وزير أول خرج إلى الشارع ولم يهتف له أحد!!، يمكنك أن تعتبرنا شعبا مريضا بالهتاف…، ولا يتقن سوى التضرع إلى السلطة، وكل رئيس أو وزير يقرر أن يخرج إلى الشارع سيجد الآلاف في استقباله طوعا أو كرها، وسيرجع إلى مكتبه وهو ممتلئ بمشاعر الامتنان لهذا الشعب الذي يحبه… وينسى في غمرة هذا الفيضان العاطفي (التلقائي) أن هذا الحب حتى لو كان عفويا وصادقا هو جزء من الديكور السياسي: مواطنون يتظاهرون بتأييد السلطة، وسلطة تتظاهر بتأييد مطالب مواطنيها، والفقر باسط ذراعيه بينهما وابتسامة الهزء الماكرة على شفتيه الغليظتين..
ولو أردت الدقة فإن المشهد وإن كان معادا ومكررا فهو مختلف، ففي العهود السابقة كان حفلة استقبال الجموع للزعيم تنتهي بجلسة مضيقة في مقر الولاية لاستعراض قائمة من القرارات توهمنا السلطة بأنها نتيجة للزيارة بينما هي في الواقع قد اتخذت مسبقا ونظمت الزيارة لتكون إطارا مشهديا لإعلانها (صندوق 26-26 نموذجا). أما الآن فالشعب والسلطة يلعبان معا كرة الطاولة (البينغ بونغ): الشعب يطالب السلطة بالتنمية والسلطة تقول للشعب سأعطيك آليات لتحقيق التنمية واصنعها بمفردك. ويشترك الاثنان في سبّ (الآخر) الذي يقف خارج هذا المشهد، ولعنه بعبارات مكررة بلا معنى في مقدمتها العبارة الرئاسية الشهيرة (ينكلون بالشعب في قوته..)
زيارات الرئيس إلى الدواخل بكل ما فيها من ضجيج ودموع وعناق وهتافات لا تنتهي كما تنتهي زيارات عمر بن الخطاب (المشكوك أصلا في واقعيتها)، ففي الرواية المتداولة قال أمير المؤمنين: «إن حمل جبال الحديد وثقلها خير من حمل الظلامة كبرت أو صغرت»، ولم تأذن النيابة العمومية بفتح تحقيق قضائي ضد المرأة العجوز لأنها قالت: «لا حيّا الله عمر والله إنه ظلمني».


هل يمثل الذكاء الصناعي خطرا على الانسانية؟

أثار موقف رئيس الجمهورية من الذكاء الصناعي في خطابه بمناسبة يوم العلم لغطا كبيرا على وسائل التواصل الاجتماعي، واتخذ هذا اللغط في كثير من التعليقات منحى التنمر والسخرية من غير أن يتحول إلى نقاش هادئ ورصين، لا سيما أنه يتناول مسألة من أخطر المسائل وأعقدها في هذه اللحظة التاريخية على نطاق عالمي. ومساهمة منا في وضع الجدل في سكته الحقيقية، سكة النقاش المعتدل والاختلاف الفكري البناء هذه جملة من النقاط التي تبرّر استنكار موقف الرئيس بصفته الاعتبارية تلك من الذكاء الصناعي واعتباره إياه خطرا على الإنسانية.

الرئيس قيس سعيد في يوم العلم

الرئيس قيس سعيد في يوم العلم

أول هذه الأسباب أن كل الاختراعات والاكتشافات الكبرى عبر التاريخ يرافقها في البداية لغط حول أهميتها وخطورتها على الانسانية قبل أن يقع لاحقا احتواؤها وتوظيفها، وأبرز مثال على ذلك ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية من جدل حول جدوى الأبحاث الفضائية، لا سيما بعد فشل مهمة أبولو 13 العام 1970، وقد تفرّغ عالم الفيزياء (كارل ساغان) في بداية السبعينات لتأليف مسلسل تلفزيوني نشر لاحقا في كتاب بعنوان (الكون) حقق أعلى المبيعات بهدف تبسيط المعارف العلمية وتقريبها من أذهان العامة حتى يدركوا الانعكاسات المحتملة لبرنامج غزو الفضاء على حياتهم ومستقبلهم. ورغم كل المجهودات التي بذلت في هذا المجال والنجاحات الكبرى التي حققتها الإنسانية في اكتشاف الكون ما يزال هناك من يشكك في هبوط أرمسترونغ على سطح القمر وكروية الأرض ودورانها حول الشمس، بما يعني أن الأحكام المسبقة والقناعات الإيديولوجية تمثل أحيانا سدا منيعا أمام التقدم العلمي، وينطبق هذا على موضوع الذكاء الصناعي، فمن الخطورة بمكان أن يقرر الفرد أن هذا الذكاء يهدد الإنسانية لا انطلاقا من معطيات موضوعية ثابتة (كما هو الشأن مثلا بخصوص السلاح النووي) إنما انطلاقا من تخوفاته هو وقصوره عن مجاراة ركب التقدم! وإن اتخاذ موقف قاطع من قضية الذكاء الصناعي وهي قضية لم تطف على سطح الأحداث إلا منذ فترة قصيرة تسرّع لا مبرر له لا سيما عندما يتعلق الأمر بقيادة سياسية.

هل يمثل الذّكاء الصناعي خطرا

هل يمثل الذّكاء الصناعي خطرا؟

ثانيا: إن التخويف من التكنولوجيا أيا كانت مجالاتها عادة ما تقف وراءها مجموعات ضغط لها مصلحة ما في موجة الخوف التي تثيرها. والاستثمار في (الفوبيا) ليس بالأمر الجديد في عالم التكنولوجيا، ففي عام 1999 وبمناسبة المرور إلى الألفية الجديدة عمت العالم موجة من الخوف غير مسبوقة. فانطلاقا من احتمال عدم انتقال الخوارزميات التي تشغل الحواسيب بشكل صحيح إلى القرن الجديد، رسمت سيناريوهات أعطاب مختلفة يقع أبسطها في ماكينات القهوة ومصاعد العمارات، وأعقدها في المفاعلات النووية. لقد صور إخفاق الكمبيوترات والشبكات في عبور الألفية بوصفه خطرا يهدد الإنسانية، وكانت تلك الموجة العارمة من الخوف والترقب مدخلا لضخ استثمارات ضخمة في المعدات والبرمجيات، واكتشف لاحقا وبعد الانتقال بلا أضرار تذكر أن تلك السيناريوهات الكارثية مبالغ فيها.
ثالثا: إن الجدل حول انعكاسات استخدام الذكاء الصناعي منحصر حاليا في بعض الدوائر السياسية، وليس غريبا أن يرد أول موقف في تونس من هذه القضية في خطاب رئيس الجمهورية وأن تكون كلمة الأمين العام للأمم المتحدة هي مرجعه الأساس! بينما يفترض في قضية تقنية كهذه أن يعتدّ بآراء العلماء، وأن يكون الجدل في مستوى الدوائر الأكاديمية ومؤسسات البحث. والتضاد بين حقلي السياسة والمعرفة يعود إلى بداية التسعينات من القرن الماضي عندما خرجت الانترنت من مخابر البحث إلى الاستخدام العمومي وطرح السؤال الحاسم (من الذي سيتحكم في هذه الشبكة العالمية؟)، واختار العلماء الاستقلالية التامة عن الحكومات التي ليس يمكنها إلا التحكم في البنية التحتية لطريق المعلومات السيارة باعتبارها من الموارد السيادية، أما حيازة المعلومات ومراقبتها فموضوع اختلاف بين الأنظمة من الشمولية التي تضع يدها على كل المنشورات إلى الليبرالية المطلقة التي لا تتدخل إلا لحماية الأمن القومي ومجابهة الإرهاب. ومما يفسر هذا التضاد بين الساسة والعلماء أمر بديهي فمن السهل أن تحكم شعوبا متخلفة أما الشعوب المتعلمة فمن الصعب السيطرة عليها! وهناك في هذا السياق رأي يفسر ثورة 2011 في تونس التي لعبت فيها وسائل التواصل الاجتماعي دورا أساسيا بأن نظام بن علي ذاته هو الذي مهد لها الطريق عبر سعيه إلى تعميم الانترنت وتمكين الناس من اقتناء الحواسيب الشعبية دون أن يقرأ حسابا لعاقبة كل ذلك على وجوده، حيث أسهم الارتباط واسع النطاق بالشبكة في تعميم حالة الرفض فضلا عن انتشار الإحباط لدى فئة الشباب على وجه الخصوص لتناقض واقعهم مع ما يرونه حولهم في العالم.
رابعا: إذا اقتصرنا على الدوائر العلمية فإن الآراء المتداولة حول الذكاء الصناعي مختلفة جدا، والاختلاف يبدأ من تعريف المصطلح، فهناك من يرى أن كل ما ينتمي إلى عالم الحوسبة هو شكل من أشكال الذكاء الصناعي وبناء على ذلك فهو منتشر اليوم في حياتنا اليومية دون أن يطرح أي تهديد! لكن للتدقيق يمكن القول بأن الجدل الدائر حاليا مرتبط بتطوير (اللغة الطبيعية) مع الإعلان عن نسخة متطورة من برنامج الذكاء الصناعي (ChatGPT) الذي يجعل الآلة تحاكي الانسان. ولم يتحقق هذا التطور إلا مع القدرة اللامتناهية للحواسيب الجديدة على معالجة البيانات الضخمة بسرعة فائقة، ويمكن لهذه الوظائف الجديدة مثلا استنباط الصور ومحاكاة الصوت البشري وتغيير الفيديوهات بما يمكن أن يكون أداة للتزييف والتظليل. وهذه مخاطر محدودة قد تطال فعليا الحقل الاجتماعي والتربوي وتضع على المحك أخلاقيات المجتمع الافتراضي، بما يدعو إلى استنباط طرق ووسائل تمكن من احتواء هذه التقنيات الجديدة بدل التصادم معها. فمزاياها في مختلف المجالات الحيوية تبرر وجودها واستمراراها والاستثمار في تطويرها على المدى المتوسط والبعيد وتجعل اعتبارها بشكل قاطع خطرا على الانسانية موقفا لا يخلو من سذاجة.
أخيرا: عندما يبادر رئيس الدولة بما له من صلاحيات تنفيذية واسعة بالحسم قطعيا في مجال خلافي كهذا فإنه يصطف علنا في جبهة الرفض والمقاومة ويضع نفسه بوضوح في مواجهة جيل كامل من أبناء شعبه يمثل له الذكاء الصناعي فرصة رائعة للاستثمار والابتكار والخروج من حالة اليأس والقتامة وانسداد الأفق بما يمكن أن يوفره من آفاق جديدة. فكل التكنولوجيات عند ظهورها تعيد السباق إلى نقطة الانطلاق، وتمنح الشعوب فرصة جديدة، لقد بات معروفا أن تونس كانت أول دولة عربية ترتبط بشبكة الانترنت مطلع تسعينات القرن الماضي لكنها اليوم وبعد مضي ثلاثين عاما على ذلك الحدث موجودة في ذيل قائمة الدول التي طورت حياتها بفضل الانترنت، حدث هذا الفشل رغم أن الرئيس بن علي كان طيلة عهدته مهووسا بالتقنيات الحديثة، ومولعا بشكل شخصي بكل ما يمت إلى التكنولوجيا بصلة وكانت وسائل الدعاية في نظامه حريصة على ترويج صورته جالسا في مكتبه أمام حاسوب ضخم، واليوم يعرف القاصي والداني أن الرئيس قيس سعيد مولع بالكتابة اليدوية وفنون الخط العربي مستخدما الحبر والدواة وان تحمسه للتكنولوجيا لم يتجاوز دفاعه عن منصة الاستفتاء بل حتى في هذه ما يزال حديثه عن محاولات الاختراق التي تعرضت لها المنظومة أو محاولات التشويش عبر الأقمار الصناعية (هكذا) محل تندر أيضا لبعدها عن الواقع واستحالتها! وفي ظل واقع كئيب متجهم كهذا وموقف معاد بصراحة للذكاء الصناعي وهو عماد المرحلة المقبلة من مستقبل الإنسانية في كل المجالات ماذا يمكن لمهندس تونسي شاب حديث التخرج أن ينتظر من حكومة بلاده؟ إن حالة العزلة التي تعيشها طبقة كاملة من الشباب التونسي بسبب تخلف قوانين البلاد وعدم قدرتها على مجاراة العصر وبسبب ضعف شبكة الاتصالات وتمسك الإدارة بإجراءات بيروقراطية بالية تجعله يتطلع إلى ثورة حقيقية تقتلع الجذور الميتة التي تسد مجرى النهر وتعوق تدفقه، لكن أعلى هرم السلطة لا يعطي أي بصيص أمل في هذا الاتجاه ولن يكون بمستطاعه لومهم عندما يهاجرون وبكل الطرق.


ذكرى عبد الرحمن مجيد الربيعي

في شارع خلفي من شوارع تونس العاصمة التقيت عبد الرحمن مجيد الربيعي بلا موعد ذات صباح شتوي غائم وحزين من صباحات العام 2012. واسترقنا معا ساعة من الزمن في مقهى صغير يضع كراسيه على الرصيف، وتحيط به من كل الأنحاء دكاكين بيع الأشرطة والملابس المستعملة والعطور الرخيصة. كنت على وشك الانتهاء من إجراءات الهجرة ولم يبق على السفر إلا القليل، أما عبد الرحمن فلم ينقطع عن عادة التجول اليومية في المدينة بقامته الفارعة وخطوته الرياضية الرشيقة وأناقته المشهودة رغم الفوضى التي اكتسحت الشوارع في تلك الأيام وغيرت ملامحها..

عبد الرحمن مجيد الربيعي وتوفيق بكار (قابس 1992)

عبد الرحمن مجيد الربيعي وتوفيق بكار (قابس 1992)

لم تكن تلك أول مرة نلتقي فيها ولن تكون الأخيرة، فصداقتنا تجاوزت ساعتئذ العشرين عاما. لكنها كانت المرة الوحيدة التي شعرت فيها أن الربيعي في أمسّ الحاجة إلى أن يتحدّث بقلب مفتوح، وأنه رغم كل الصداقات التي كوّنها في حياته على امتداد خارطة الوطن العربي كان يومها في حاجة إلى صديق واحد فقط، صديق يتقاسم معه الشارع والزحام والفوضى. في أيام الانفلات والغليان تلك صار عبد الرحمن الذي لطالما كان مفردا في صيغة الجمع يمشي وحيدا في شوارع لم يعد يعرفه فيها أحد، ولم تعد عيناه بقادرتين على إخفاء الحزن العميق الذي يتصاعد من أعماق روحه.

نشأت علاقتي بالربيعي العام 1990 في اليوم الوطني للثقافة، حيث دعته إذاعة المنستير مع الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور للمساهمة في أمسية شعرية، وكلفتني بمرافقتهما من العاصمة إلى المنستير. وكان من الصعب علي منذ أن التقيتهما حتى وصولنا أمام باب الإذاعة أن أتخطى عتبات الدهشة والانبهار. وهو شعور طبيعي لشابّ في مطلع التجربة ومقتبل العمر يجد نفسه في سيارة بيجو 304 مع نجمين من نجوم الساحة الثقافية والأدبية في الوطن العربي.

كانت تونس في نهاية ثمانينات القرن الماضي وبداية تسعيناته مركزا عربيا على الصعيدين السياسي والثقافي لوجود الجامعة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية فيها، كما يعود الفضل في ذلك إلى الاهتمام الرسمي بالثقافة والتعريب والنشر في ظل حكومة محمد مزالي (1980-1986) والانفراج السياسي النسبي الذي شهدته سنوات حكم الرئيس زين العابدين بن علي الأولى ولم يدم طويلا. وفي هذا الخضم، حطّ عبد الرحمن مجيد الربيعي الرحال في تونس للإقامة بها، وأصبح صديقا لإذاعة المنستير وعضوا نشيطا في ملتقاها الأدبي السنوي، ملتقى أدب التسعينات، بل يعود إليه الفضل في ما تحقق لهذا المهرجان الثقافي من إشعاع عربي بلغ ذروته في الدورة الخامسة العام 1995.

ملتقى أدب التسعينات

ملتقى أدب التسعينات

وعندما نتكلّم عن الصداقة في هذا السياق فإننا بلا شكّ نتحدّث عن حالة إنسانية فريدة من نوعها، فقد كان الربيعي يمتاز بقدرته العجيبة على نسج الصداقات وتمتين أواصرها ولذلك سرعان ما تخطت علاقته بنا في الإذاعة الحدود المألوفة. كما كان يوصَفُ بالرجل (المؤسّسة)، لسخائه في التعريف بالأعمال الأدبية الجديدة التي تصله من هنا وهناك، كان يكتب في منابر مختلفة، وفي مواضيع شتى، ولا يتردد في حضور الندوات التي يدعى إليها، ويشارك باستمرار في وسائل الإعلام. وأنا مدين له بشكل شخصي في الكثير من التغطيات الصحفية التي تحقّقَ فيها السّبقُ. لأنني كنت في كل مرة أحتاج فيها إلى التواصل مع ضيف من عاصمة عربية أسترشده فيرشدني.

وعلى الرغم من أن الأحداث التي عشتها مع عبد الرحمن الربيعي طيلة عشرين عاما غزيرة، ظلت تلك الجلسة الصباحية الغائمة في أحد المقاهي المنزوية عالقة بالبال، فقد كان كل واحد منا في تلك الأيام بصدد إنهاء فصل من فصول حياته، نلملم شتات الأصداء في وداع بعيد المدى. فلم نلتق إثر ذلك إلا مرة واحدة بعد خمس سنوات بالنادي الثقافي الطاهر الحداد وفي أزقة المدينة العتيقة كان لقاؤنا الخير، فبعد أن نال منه المرض واشتدّت عليه الوحدة ولم يعد كما كان، عاد إلى العراق.

وفي هذه السنوات التي انتصرت فيها الفوضى والتفاهة على الكثير من المبادئ والقيم الجميلة وتوسّعت فيها رقعة الانهيار، أتمثل دائما بما قاله لي عبد الرحمن تعليقا على سقوط بغداد: (سيعود العراق يوما كما كان، لكن ليس في المدى المنظور) فالحياة التي صرنا نرى أن ماضينا فيها أجمل من حاضرنا، وأن ذكريات الأمس أنبل فيها من ذكريات الغد وأحلى، ستعود يوما، لكن لن نشهد ذلك اليوم. وهذه مرارة أخرى تضاف إلى المرارات التي يخلفها دائما تواطؤ الأصدقاء على الرحيل.


الحليب يا سيادة الرئيس!

مباشرة بعد عودته من السعودية أين شارك في القمة العربية الصينية، اتجه الرئيس قيس سعيّد في وقت متأخر من الليل إلى ضاحية «المنيهلة» (التي كان يقيم بها قبل انتخابه رئيسا للبلاد). والتقى مجموعة من المواطنين، ردّد أمامهم من جديد أن الأزمة الاقتصادية التي تتخبّط فيها تونس هي نتاج العقود الماضية خصوصا «العشرية السوداء» (!) وأن المرحلة الراهنة في حاجة إلى مقاربات جديدة هو منكبّ على ابتكارها… إلى آخر الأسطوانة. ولم يشقّ رتابة هذا المشهد إلا صوت أحد المواطنين وهو ينادي: الحليب يا سيادة الرئيس!

الرئيس قيس سعيّد

الرئيس قيس سعيّد

قد يكون الأمر مخيبا لآمال البعض. فالمتحلقون حول الرئيس ساعتئذ وهم أنصاره وأقرب الناس إليه (بحكم الجوار)، نزلوا بالمطالب الاجتماعية درجة أخرى إلى الأسفل. لقد كان التونسيون ساعة (الانفجار الثوري غير المسبوق) يحلمون بالحرية والكرامة والعدالة، ويطالبون بحقهم في الرفاه ونصيبهم من الأفق! وبعد أن تهاطلت عليهم الوعود من كل حدب وصوب، وأغرقهم السياسيون الذين امتطوا حصان السلطة على اختلاف مشاربهم في بحار من الأوهام وأضغاث الأحلام، ها هو ربّ عائلة من قاع المدينة يقف الآن وشبحُ الفقر جاثم على كتفيه في مواجهة (أعلى هرم السلطة) ليقول له: الحليب يا سيادة الرئيس!

لم يطالب هؤلاء الرجل الذي يستحوذ (مؤقتا) على جميع السلطات بالقطار السريع الذي سيربط بنزرت ببن قردان، أو بالمدينة الصحية التي ستقام بالقيروان. لم يطالب هؤلاء ابن حيّهم الذي أوصلوه إلى قصر قرطاج بمقاربات سياسية جديدة تقيم المدينة الفاضلة. فأحلامهم بسيطة ومشروعة وتحقيقها ممكن بمجرد الذهاب إلى البقالة. لكنها الأزمة (ومن سواها؟) تضغط بأصابعها على أعناقهم، وتتلذّذ بموتهم البطيء تحت سياط العوز والفاقة والجوع بسادية مرعبة دون أن يتمكن أحد من الوقوف في وجهها. أبناء «المنيهلة» نسخة مصغّرة من شعب يئن تحت وطأة الحاجة ويختصر يأسه في عبارة واحدة: الحليب يا سيادة الرئيس!

ينبغي ألا نسخر من هذا المشهد على مرارته، فالحليب هو الأمن الغذائي، وهو أكثر أهمية من بناء طريق سيارة أو إعادة اختراع عجلة سياسية جديدة. لأنه يرتبط بالسلم الاجتماعي والسيادة الوطنية ويحفظ كرامة المواطنين في وطنهم. هل كان الرئيس يعي وهو يسرد ذكرياته في المدرسة عند زيارته مصنع الألبان لماذا حرصت دولة بورقيبة على تقديم الغذاء مجانا للتلاميذ في المدارس؟ هل كان يدرك أن الأمر يتجاوز مجرد (إطعام أفواه الجياع) ليكون استراتيجية عميقة لنشر التعليم في مجتمع كان يرفع شعار (يوكل والا ما يقراش)!

ينبغي ألا تجعلنا صرخة ذلك المواطن أمام الرئيس نشعر بالخجل من أنفسنا، فكل الشعوب في حاجة إلى الحليب، وأن نطالب بالحليب ونحن نقترب من نهاية الثلث الأول في القرن الحادي والعشرين فذلك معناه أن أولوياتنا ينبغي أن يُعاد ترتيبها من جديد، وأننا في حاجة إلى ثورة أخرى لكن تعصف هذه المرة بالخطط والمفاهيم الاقتصادية البالية من أجل اقتصاد وطني لا يساوم في مسألة الاكتفاء الذاتي. هكذا تترجم حركات الشعوب قبل شعاراتها عندما يتقن الحاكم فن الإصغاء إلى الشعب. فما كان لشعب من الشعوب أن يصرخ في وجه حاكمه: الحليب يا سيادة الرئيس! لولا أن الرئيس منشغل عنه بإعادة كتابة التاريخ وتوجيه دفة الإنسانية نحو مسار جديد!

ولله في خلقه شؤون!

 


واحة المبدعين

قال لي سي محمد البدوي أثناء لقائنا الأخير ببيته: «أليس غريبا أننا لم نلتقط ولو صورة واحدة لنا ونحن نقدّم معا برنامج واحة المبدعين؟».

كنا يومها عائديْن للتوّ أنا والصديق الكاتب «توفيق الببّة» من العاصمة، محملين بالنسخ الأولى من كتابي «نظرية الموز» الصادر عن «دار بن عربي للنشر»، هذه الدار التي أسّسها سي محمد وأدارها بشغف كبير. يومها، ولأسباب صحية، لم يتمكن من مرافقتنا إلى المطبعة ليستلم بنفسه النسخ الأولى كما كان يحرص على أن يفعل دائما مع كل الكتب التي يصدرها، لكنّ التعب والإرهاق الباديين على وجهه الشاحب النحيل لم ينتصرا على لمعة الفرح في عينيه وهو يتصفّح الكتاب ويضمّه إليه كما يفعل الأب مع مولود جديد يستقبل الدنيا على يديه.

بداية التسعينات أمام إذاعة المنستير

بداية التسعينات أمام إذاعة المنستير

لقد سحبني سؤاله ذاك من يدي ليأخذني بعيدا عن تلك اللحظة ثلاثين عاما، إلى ذلك الصيف الذي التقينا فيه لنؤسّس معا أحد أنجح برامج إذاعة المنستير إطلاقا. كيف لا؟ وهو السّماء التي كم حلّقت فيها طيور كثيرة صنعت ربيع الثقافة والأدب في التسعينات وما تلاها. لقد كان زمنا جميلا للحبّ والحلم والأمل. ولم يكن المستحيل يعني شيئا. قال لنا الصادق بوعبان أن مدير الإذاعة اختصر المرحلة في جملة واحدة: «أروني ما تستطيعون فعله». ولم يدر أنه في تلك اللحظة قد أوقد الشعلة التي لن تنطفئ إلا بعد ما يقارب العقدين من الزمن، بعد أن هبّت الفوضى من كل الأنحاء. لم يدر أنه فكّ المارد من عقاله وأضاء له الدرب، فتتالت الأفكار والعناوين، وظللنا ننتقل مثل الفراشة من زهرة إلى أخرى نصنع ذكرياتنا وذكريات الآخرين، آملين أن نترك للناس ما ينفعهم، وما يمكث في العقل والوجدان.

الدكتور محمد البدوي

الدكتور محمد البدوي

حقّا لم نجد الوقت الكافي لالتقاط صور تذكارية، فقد كنا نسابق الزمن. ولم يكن التصوير متاحا بالسّهولة التي صار إليها في عصرنا هذا، عصر الهواتف المحمولة والوسائط الاجتماعية. وأنا لم أرافق محمد البدوي في «واحة المبدعين» إلا سنة واحدة انتقلت إثرها إلى المنوعات، فيما ظلّ هو وفيّا للكِتَاب وللأدباء الشبّان، فصارت برامجه المخصصة للأدب التونسي الحديث علامة مميّزة في الوسط الثقافي والأكاديمي. لكننا في ذلك العام اليتيم وضعنا مع رفاق الطريق الآخرين الأسُس التي قام عليها «ملتقى أدب التسعينات» واستمرّ سبعة مواسم مستقطبا في رحابه مئات الكتاب والمبدعين من تونس ومن مختلف أنحاء الوطن العربي.

وفي تلك السنة الأولى كنّا أمام الميكروفون مثالا جيّدا للانسجام الذي يقوم على التناقض، والاختلاف الذي لا يفضي إلى تباغض، بل يولّد المزيد والمزيد من الأفكار والصّداقة والودّ. كنت شديدا وكان حليما، وكنت مندفعا وكان حكيما، وكم جلبت لنا الصراحة التي كنت أتوخاها في النقد من متاعب كان سي محمد يضطر دائما إلى إطفاء نيران الغضب التي تخلفها. وأثناء ذلك مدّت الصداقة التي نشأت بيننا جذورها في الأرض عميقا، فتقاسمنا الماء والملح ببيتنا في «سيدي عامر» وببيته في حيّ البساتين، البيت الذي كان مفتوحا على مصراعيه لكل الأصدقاء بكرم حاتمي قلّ نظيره. وظلّ ذلك الاختلاف ثابتا لم تغيّره الأيام، حتى أنني عندما أطلعني سي محمد على كتابه (ثلاثون عاما في إذاعة المنستير) مخطوطا، تمنيت أن يحذف منه فقرات كثيرة وأن يتجاهل أولئك الذين أساءوا إليه، لكنه لم يفعل، وجلب له ذلك آلاما كم كان في غنى عنها..

تخليت عن مقعدي أمام ميكروفون «واحة المبدعين» مبكرا لأسلك طرقا أخرى في الحقل الإذاعي الفسيح، فتداول عليه آخرون. وظل سي محمد وفيا للنهج الذي اختاره منذ البداية فأصبح بمرور السنوات عرّابا لكثير من التجارب الأدبية الغضة، تشهد بذلك المقدمات التي صاغها لأعمال نشرتها تحت إشرافه دار المعارف والأعمال التي تبناها عندما اقتحم غمار النشر. وعلى مدى عشرين عاما بعد لقائنا الأول في ظلال الواحة ظل سي محمد يلحّ على أن نصوصي الشعرية قد تأخّر أوانُ نشرها طويلا. ولذلك كان الإهداء في مجموعتي الأولى «غابة تتذكر أحزانها» موجها إليه.

الصور القليلة المتبقية كانت خارج الأستوديو، بعيدا عن واحة المبدعين، وأجمل منها تلك الصور التي لم تلتقط وظلت نابضة بالحياة في ذاكرتنا المشتركة. وأنا أسترجع الآن بصفاء نادر وقائع ليلتنا الأولى في بغداد، حين وصلنا إلى فندق الميريديان عند منتصف الليل بعد رحلة برية طويلة من عمان. فقد امتثلنا رغم التعب والإرهاق للشاعر «آدم فتحي» الخبير بليل المدينة وخباياها الأسطورية، وقد قال لنا: لا مجال للنوم، قبل أن ندخن نارجيلة في أحد المقاهي الخلفية بشارع الرشيد، وهناك قضينا الليل كله. في الطريق كان سائق التاكسي يجوب بنا شوارع بغداد التي لم نر فيها أي علامة من علامات العدوان وعندما سألناه: أين هي آثار الحرب؟ ابتسم قائلا: إنها في القلب.

وكذلك هي صور الحب وذكريات الزمن الجميل مكانها دائما في القلب.


النخيل الجريح

بعد أن توّجت وهران في مهرجانها السينمائي فيلم عبد اللطيف بن عمار “النخيل الجريح” وأعادت الاعتبار لهذا الرجل الذي غامر بفتح ملف حرب بنزرت سينمائيا، صار من الممكن أن نتحدّث ولو قليلا عن ظاهرة “الحرقان”، ظاهرة تهجير المبدعين ونفيهم داخل بلدهم…

النخيل الجريح لعبد اللطيف بن عمار

النخيل الجريح لعبد اللطيف بن عمار

 لقد بدا واضحا للعيان أن فيلم النخيل الجريح رغم أنف سنة السينما تجاذبته قوتان: الأولى منحته امتياز افتتاح مهرجان قرطاج الدولي في ليلة صيفية شهدت حضور ما يعادل جمهور شهر كامل من جماهير قاعات العرض التقليدية، وقوّة ثانية عطلت خروجه الرسمي والطبيعي في مختلف مدن الجمهورية واستثنته من قائمة التتويج في أيام قرطاج السينمائية (نتحدث طبعا عن تتويج في مستوى التانيت) وقد كانت قلوب الجميع تهفو لهذا التتويج لا حـبًّا في عبد اللطيف بن عمار وثقةً في قدرته الإبداعية فحسب، وإنما رغبةً في فتح صفحة جديدة في حياة السينما التونسية وإيصال رسالة إلى الناس مفادها أن تاريخنا الحديث والمعاصر منجمٌ خصب للأفكار والرؤى التي يمكن أن نصنع منها وبها سينما جديدة طموح.

 ولكن شاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، بل عصفت هذه الرياح عصفا بأحلام السفن، وطوّحت بها بعيدا عن مرافئ الأمان، وفي الوقت الذي اهتدت فيه السينما التونسية إلى حرب بنزرت موضوعا، شاءت أيام قرطاج السينمائية  كما فسّرت ذلك بعض وسائل الإعلام المرئية والمسموعة أن تتصالح مع السينما المصرية بتـتويج شريط ميكروفون الذي لم يحظ بإجماع حول علو قيمته وأحقيته بالتانيت.

 ماذا يعني استبعاد النخيل الجريح من منصّة التتويج التونسية وتتويجه في الجزائر؟

 ذلك يعني بلا شكّ أن رؤية لجنة التحكيم في تونس مختلفة جذريا عن رؤية نظيرتها في الجزائر، ولا شكّ أيضا أن المتفرج وحده هو الذي سيحكم بعد المشاهدة ما إذا كانت الرؤية التونسية حكيمة وصائبة وكانت نظيرتها الجزائرية تُخلوِظُ في بحر السينما ولا تفقه شيئا.

 وقد يعني ذلك أن عبد اللطيف بن عمار فتح بابا يُستحبّ أن يظلّ مغلقا، ونكأ جرحا يستحق حثّ التراب عليه ووضع إصبعه في مكمن داء ما تزال أوجاعُه حيّة مضطرمة…

 ولكن في ذلك إشارة واضحة نقيّة إلى أنّ مسلسل استبعاد الكفاءات المبدعة الحقيقية ما يزال متواصلا وبحدّة، لأن تيّار التهجير والتكفير والتحقير قويّ، بل أقوى من تيّار التغيير والتأصيل والتطوير وأقدر على تنفيذ أحكامه في وجه المبدعين والفنانين الحالمين المجددين..

ديسمبر 2010


الرئيس، الأحزاب، والثور الأبيض.

من بين الفرضيات التي رشحت عن لقاءات رئيس الجمهورية بممثلي المنظمات والأحزاب الموالية له بعد صدور المرسوم عدد30 فرضية تتحدث عن إمكانية إشراك الأحزاب في الحوار السياسي الاستشاري من أجل جمهورية جديدة باستثناء أربعة أحزاب فقط. وهذه الفرضية (لو صحت) تعني أن الرئيس يناور بورقة جديدة يكسب بها نقطتين: أولا ينفي بشكل عملي ما يتوقعه منه خصومه بخصوص تعطيل الحياة الحزبية (كما تتحدث عن ذلك أدبيات البناء القاعدي في سياق إزالة الوسائط بين الزعيم والشعب)، وثانيا يكافئ الطيف الحزبي الذي يسانده وهو طيف يفتقر إلى العمق الشعبي! فهل يحق للرئيس أن يستخدم آلية العقاب الجماعي؟

الرئيس يستقبل زهير المغزاوي

زهير المغزاوي عن حركة الشعب

لقد تمّ تأويل لحظة 25 جويلية بطريقتين مختلفتين، فالنهضة والأحزاب المتحالفة معها تعتبرها انقلابا، فيما يعتبرها الرئيس ومن والاه تصحيحا للمسار. لكن هذه اللحظة أصبحت بمثابة كرة الثلج، لتستخدم أداة تنسف ما تم إنجازه في عشرية كاملة، وها هي تصبح معيارا رسميا للفرز! هناك حينئذ اختلاف بيّن بين المعلن والمضمر في خطاب الرئيس، ففي حين ينفي أن يكون ما أقدم عليه انقلابا يتصرف في الواقع كما لو كان الأمر كذلك!! لأن تقسيم المجتمع بين موالاة ومعارضة على هذا الشكل الذي يؤدي إلى العقاب الجماعي لا يحدث إلا في الانقلابات. (مواصلة القراءة…)


وغابت عنك أشياء…

وغابت عنك أشياءوصلت إلى محطة المنصف باي بالعاصمة، ذات عشية رمضانية صُفّدت شياطينها، وكنت قاصدا المطار، فوضعت حقيبتي على الأرض وجلت ببصري في الأنحاء باحثا عن سيارة تاكسي. وما هي إلا طرفة عين حتى انبثق أمامي رجل في العقد السادس من العمر، بلحية خفيفة بيضاء وجبهة عريضة تحليها زبيبة الصلاة. قال: أتبحث عن تاكسي؟ وقبل أن أجيبه ألقى بالحقيبة في جوف السيارة وقال بلهجة حازمة: اركب!
تحركت بنا السيارة تشقّ زحام المساء، وهمّ السائق بالعداد ليشغله، قبل أن يسألني: إلى أين أنت ذاهب؟ قلت إلى المطار، فضحك (وقد تفطن فيما يبدو لسذاجتي) قائلا: أعرف، أعرف، لكن قصدت إلى أين ستسافر؟ وقبل أن أجيبه، قال: آه، ستسافر إلى الخليج بلا شك. قلت: نعم، فمدّ يده ليوقف العداد وقال في لهجة المتسائل: لنجعلها (فورفيه)؟ وكان يقصد أن أجرته ستكون مبلغا جزافيا، قلت: كم؟ ضحك وقال: عشرون دينارا كالمعتاد!
لم تكن يفصلني عن موعد ركوب الطائرة الاّ ساعة واحدة، ولذلك امتنعت عن الخوض في جدال بلا طائل، ورضيت بدفع مبلغ يضاهي ثلاثة أضعاف قيمة العداد. وتعبيرا منه عن الامتنان لي بقبول الصفقة دون جدل وبلا أخذ وردّ خصوصا ونحن في شهر الصيام الذي يصعب فيه الكلام، أكد لي أن الأرزاق بيد الله عز وجلّ، وأن الأقدار هي التي قادتني إليه هذا المساء، وروى لي كيف تخاصم منذ قليل مع سائق آخر اختطف منه بعض الركاب (يؤكد أنه شرطي يشتغل في أوقات الفراغ سائق تاكسي). فأوكل أمره إلى السماء، وها هي تستجيب له بسرعة وتمنحه التعويض المناسب من جيبي أنا!
ليس هذا فقط، فقد اتصل به ابنه ليعلمه بأن الخبز مفقود في مخبزة الحيّ، فنهره قائلا:(مش لازم الخبز!!) لكن بعد دقائق قليلة، وصلت إلى المحطة سيارة أجرة قادمة من القيروان أهداه سائقها خمس خبزات من الحجم الكبير (يرفع السائق هنا يديه عن المقود والسيارة تجري في طريق المطار ليرسم بهما حجم الخبز القيرواني الذي كافأه به الله لقاء صبره وقلة لهفته) بما يؤكد أن باب العرش مفتوح طيلة ذلك اليوم لتلبية طلباته هو دون سائر الخلق..
ولم تكن قصة الخبز المفقود والشرطي الذي يعمل سائق تاكسي إلا مقدمتين ناعمتين للخوض في بحر السياسة، فقد تنحنح محدثي ودون سبب منطقي قال: كل شيء بسبب التطبيع! قلت كيف؟، قال: قيس سعيد لن يطول بقاؤه، (اللي حطوه، يبحثوا الآن على بديل لكن ما لقاوش) قلت من هم؟ قال: ألا تعرف؟ إنها الدول الكبرى، فرنسا وأمريكا وانقلترا وألمانيا و…الخ ثم أردف قائلا: الباجي قايد السبسي جاووه وفي جلسة نقاش مغلقة (لا أدري كيف ألم هو بتفاصيلها) قالوا له: نحن ندفع ميزانية تونس لسنتين متتاليتين المهم أن تنفذ هذا الطلب ، لكنه رفض، ويؤكد محدثي هنا أن هذه التصرف يعتبر من الحسنات القليلة التي وضعت في ميزان الرئيس السابق، قلت: رفض ماذا؟ التطبيع؟ قال: لا، طلبوا منه محاربة الإسلام وإرجاع قادة النهضة إلى السجون، لكنه رفض..
أومأت برأسي موافقا، فقال: طبعا بقية القصة معروفة: لقد قتلوه… هو بنفسه قال لابنه: وضعوا قنبلة في بطني.. والله أعلم من نفذ عملية القتل زوجته أم ابنه.. وبصوت يشبه الهمس أوضح لي أن حافظ قايد السبسي يتعاطى المخدرات، وأنه لا شك قد فعل فعلته تحت تأثير جرعة زائدة…!
ثم ضحك محدثي طويلا وقال: أصدقت أنهم أطردوا راشد الغنوشي من جامع بن عروس؟، أنا أصيل تلك المنطقة وأصلي التراويح في ذلك المسجد وكنت حاضرا يومها.. جاء الشيخ راشد وصلى معنا، لكن أثناء الصلاة تفطن له جماعة (زهير المغزاوي) فجلبوا خمسة أو ستة أطفال لا يتجاوز عمرهم الخامسة عشرة ليصرخوا أمام المسجد (ديقاج)، ويقول محدثي أن الغنوشي صلى في جامع رواد وسط خمسمائة من أتباع النهضة فلماذا لم يطرده أحد من هناك؟!
في تلك الأثناء وصلنا إلى المطار، نقدت السائق أجرته المستحقة، فدسها في جيب سترته وقال لي: احذر من أولئك الحمالة الذين يتصيدون المسافرين أمام أبواب المطار، إنهم محتالون. شكرته على نصيحته الثمينة وقلت له جهرا لا تقلق سأحمل الحقيبة بنفسي، وأضفت سرا: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. فتمنى لي سفرة طيبة، وانطلق مسرعا، وغاب عن الأنظار. أما أنا فقد قاومت طويلا رغبة ملحة انتابتني للكتابة عنه بوصفه نموذجا مثاليا للشعب الصالح لأنه من الصعب إقناع القراء بأن هذه الأحداث حقيقية ولا صلة لها بالسرد والخيال…

نظرية الموز في طبعة جديدة

book_cover_smallصدرت عن منشورات ابن عربي طبعة جديدة من كتاب (نظرية الموز) للكاتب الصحفي عامر بوعزة في 229صفحة من القطع المتوسط. ويتضمن الكتاب 51 نصّا يتفاعل فيها الكاتب مع أحداث ووقائع تحيل على أهم المتغيرات الثقافية والاجتماعية التي عايشها.

ينطلق الكتاب من فكرة الوقوع في (فخ العولمة)، حيث صور الكتاب الذي يحمل هذا العنوان أزمة المجتمعات المعاصرة في انتفاء المعنى وكثرة (الفائضين عن الحاجة) الذين ينبغي إلهاؤهم بالتسلية المخدرة، وعبر هذه الثقافة السهلة التي روجتها القنوات الفضائية منذ التسعينات بدأ الانحدار الذي نعيش الآن أوجه في عصر التواصل الاجتماعي. وفي هذا الكتاب يرسم عامر بوعزة بأسلوب أدبي تمتزج فيه النوستالجيا بالسخرية والمرارة ملامح هذا التحول القيمي الذي نقل الإنسان من عصر الأحلام الكبرى إلى زمن التفاهة.

يقول الكاتب عن هذه النصوص: إنها ليست فقط معركة بين أنصار الحرية وأركان الاستبداد، بل هي مواجهة شرسة بين النبل والسفالة، بين الجمال والانحطاط. كل ما أكتبه يتعلق بهذه المعركة، وهكذا تشكلت في هذه النصوص، خلال ربع قرن، مقاربة نقدية للشأن العام، ومعاينة دقيقة لما طرأ على واقعنا من تحولات جذرية في مرحلة قلقة غير مستقرة لكنها حاسمة.

 


توفيق الخذيري، الرجل والإذاعة

كنت أتأهب لمغادرة المكتب في تلك الأمسية الصيفية الحارة من أماسي «عام الثورة» عندما رنّ جرس الهاتف. كان المدير على الطرف الآخر من الخط. ولأول مرة منذ توليه إدارة الإذاعة في ظروف انفلتت فيها كل الشياطين من عقالها، امتزج في صوته وهو يخاطبني الانكسارُ بالتملّق.
قال: أيعجبك ما فعله معي توفيق الخذيري؟
قلت مستفسرا: ماذا فعل؟
قال: لقد رفض الفكرة التي اقترحتها عليه!
وأنهى المكالمة بتودّد مصطنع قائلا: أرجو أن تحاول إقناعه.

توفيق الخذيري

توفيق الخذيري

اتصلت بمكتب الاستقبال وطلبت منهم إبلاغ توفيق بأني أريد لقاءه في مكتبي قبل مغادرة المحطة، وبقيت في انتظاره.
لقد شبّه أحدهم أجواء الثورة بما يحدث عندما تخرجُ زربية ثمينة من مخبئها لتنفض عنها ما تراكم من غبار. فقد كنا يومها جميعا مثل ذرات الهباء، كل ذرة تغادر مكانها لتطير في الهواء، وتتشقلب مرارا قبل أن تقع في مكان آخر. ووسط ذلك الغبار الكثيف الذي كان يتطاير ويخنق الأنفاس انهارت الحدود الفاصلة بين النبل والسفالة، بين الشهامة والوصولية، واختلطت المعادن الأصيلة النادرة بنظائرها المقلدة المزيفة. وأنا كنت شاهدا على ذلك المدير الذي كان متعاونا مع الإذاعة لسنوات طويلة وأخذ بعد الثورة يتشقلب بكل ما أوتي من انتهازية وصفاقة للوصول إلى هذه الوظيفة بدعم من أحد الوزراء الجدد. كما كنت شاهدا على توفيق الخذيري وهو يذود في كل الأوقات عن نفسه كما يدافع الأسد عن عرينه.
قبل ذلك بعشرين عاما، «وكان الزمان أقل جموحا»، كنت أتأهب لتقديم حلقة من برنامج «جاءوا إلى تونس» الذي يستضيف أدباء ومثقفين من الوطن العربي استقروا في بلادنا، وبينما كنت منشغلا بتجهيز الأشرطة والأغاني والاتصال بالضيوف أقبل الصادق بوعبان رئيس مصلحة الإنتاج ومعه شاب أسمر وسيم تبدو عليه علامات الخجل الفطري، وقال لي: هذا توفيق الخذيري، سيتابع اليوم برنامجك. (مواصلة القراءة…)


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress