Author Archive

ميثاق النباح

عينان خضراوان، حامد الناظر

عينان خضراوان، حامد الناظر

تتركب اللعبة السردية في رواية حامد الناظر الجديدة «عينان خضراوان» من ثلاث طبقات، تفضي إحداهما إلى الأخرى فيما يشبه الحتمية، أو القدرية الطاغية التي لا فكاك منها. كل الأحداث تؤدي بعرفة بطلة القصة إلى المصير الذي انتهت إليه ولا تملك حتما وأنت تقرأ تفاصيل حكايتها إلا أن تتعاطف معها رغم أن ما أقدمت عليه يمثل في الذهنية العامة وفي المرجعية التي تصدر عنها أنت نفسك كبيرة بلا مغفرة.

وعرفة، بطلة لأنها تشبه أبطال المآسي الإغريقية، امرأة تغادر مع والدها «وادي العقيق» بعد فقدان والدتها هاربة من جحيم الحرب لتقع على بعد كيلومترات قليلة في الأسر وتبدأ رحلتها الصعبة مع الانتهاك في مواجهة قاسية للعالم الذي يتضاءل حتى يصبح بالكاد بضعة وحوش ترتدي ثيابا آدمية، وتتقلص إزاءهم إنسانيتها لتصبح شيئا للمتعة العابرة والاغتصاب المهين. رحلة من وادي العقيق إلى بورتسودان عبر تضاريس الحرب التي لا تميز بين البشر، والتي يصبح فيها القتل لعبة لاسترداد الأنفاس واستعادة بعض من الكرامة والانسجام مع الذات ويصير ضرورة للاستمرار والحياة. وفي كل هذا لم تكن عرفة إلا منقادة لمصير أجوف ونهاية مجهولة وغد بلا أفق. وفي اللحظة التي اختارت فيها لنفسها وحققت إرادتها وجدت نفسها تواجه حكم الإعدام في مجتمع لا يعترف بالإرادة الحرة ولا بحق تقرير المصير. (مواصلة القراءة…)


خاتم بن علي في إصبع الغنوشي

محمد الغرياني مستشارا لراشد الغنوشي

محمد الغرياني مستشارا لراشد الغنوشي

لماذا كل هذه القسوة تجاه محمد الغرياني؟

هكذا تساءل البعض تعليقا على موجة السخرية والانتقاد التي رافقت الظهور التلفزيوني الأول لآخر أمين عام للتجمّع الدستوري الديمقراطي بعد توليه مهامه الجديدة في ديوان راشد الغنوشي رئيس مجلس النواب. ويُلمّح هذا السؤال إلى أن التجمعيين قد انفرط عقدُهم منذ سنين وتفرّقوا داخل المشهد السياسي الحالي، وأن ما أتاه الغرياني ليس جديدا، فباستثناء الحزب الدستوري الحرّ الذي يتشبّث بمقولات العهد السابق إزاء الإسلام السياسي ارتمى كثير من التجمعيين في أحضان النهضة وانتهى الأمر!

وهو سؤال يتنزل أيضا في سياق الشعور السائد لدى العامة باهتراء المقولات الثورية، فقد حان الوقـــت -كما يقولون- بعد استيفاء كل أدوات المحاسبة دون إنجاز مصالحة حقيقية إلى طيّ صفحة الماضي طيّا بلا رجعة والانطلاق نحو المستقبل دون الالتفات إلى الأمس، لأن إخفاق أدوات العدالة الانتقالية في تضميد جـراح الوطـــن -لأسباب ليس هذا مجالها- لا يعني تركها مفتوحة إلى الأبد.

لقد تأسّس التجمع الدستوري الديمقراطي على ثلاثة عناصر، أولها السواد الأعظم من منخرطي الحزب الاشتراكي الدستوري الذين لم يتردّدوا في الالتحاق بركب «التغيير المبارك» والتنكّر للمجاهد الأكبر سويعات قليلة فقط بعد أن كانت الشّعب الدستورية تحبّر برقيات المساندة لفخامته في الحرب التي يخوضها ضدّ الظلاميين! ويتكوّن العنصر الثاني من المستقلين واليساريين والنقابيين والحقوقيين وغيرهم من النشطاء الذين وجدوا في «بيان السابع من نوفمبر» وعودا بالقطع مع ثقافة الحزب الواحد. وعلى امتداد عقدين من الزمن لم ينصهر هذان الرافدان انصهارا تاما لعدة أسباب أهمها افتقار التجمع لعقيدة سياسية حقيقية، ومحافظته على هذا التفكّك الداخلي لإحكام السيطرة على طريقة «فرّق تسد».

أما العنصر الثالث وهو الذي يشكّل الأغلبية العظمى من منخرطي التجمع فيتكون من موظفي القطاع العام، إذ فرض التداخل بين الحزب والدولة نوعا من الإلزام غير المعلن بأن يكون الالتزام السياسي من شروط الانتساب إلى الوظيفة. وكانت تبعات التشبث بالاستقلالية أو المعارضة وخيمة، فالخطط الوظيفية مثلا تعتبر استحقاقا على أساس الولاء السياسي إلى جانب الكفاءة المهنية وقبلها غالبا. وكان التعيين في مختلف المناصب حتى المتوسطة منها يخضع لاختبار الكفاءة الحزبية.

ومنذ بداية التسعينات عندما اختار النظام الحلول الأمنية لاستئصال الإسلاميين انزلق مشروع السابع من نوفمبر من دولة التعددية والحقوق والحريات إلى دولة بوليسية صارمة. ولئن مثل هذا الاختيار نقطة الالتقاء الجوهرية بين الجنرال وبعض اليساريين والحقوقيين، فإنه كان نقطة الاختلاف المركزية مع المعارضة الراديكالية التي خرجت عن السيطرة. أما التجمع فقد انحرف عن وظيفة الحزب السياسي وأصبح جهازا في خدمة الشرطة والمخابرات وكل أجهزة الأمن. وهكذا عندما وصلنا إلى حدود العام 2011، كان التجمع قد حطّم المصعد الاجتماعي نهائيا، وأقام مكانه سلّم النفاق والوصولية والخبث والانتهازية، وقضى على تكافؤ الفرص ليجعل من الوشاية الوظيفة المركزية للعمل السياسي، الوشاية كانت تطال الجميع لا المعارضين فقط وتمارس داخل النسيج الواسع للتجمّع ذاته. ولهذا لم يبد الحزب الحاكم أي مقاومة عشية الثورة، بل يروى أن كثيرا من مقرات لجان التنسيق أحرقها التجمعيون لإتلاف ما فيها من وثائق تدينهم.

إن الآراء التي تدافع عن حقّ محمد الغرياني في العمل جنبا إلى جنب مع راشد الغنوشي بعد أن كان -كما ردّد سمير الوافي أكثر من مـرة أثـــناء البـــرنامج- «ثالث رجل في نظام بن علي»! آراء يغلب عليها الطابع الإنسانوي والحقوقي والبراغماتي، لكننا ننظر بعيون أولئك الذين لا يتحدّث عنهم أحد، أولئك الذين شملهم العار، فانسحبوا من المشهد، ولم يقوَوا على معاودة الظهور، بل أصيب بعضهم بانهيار نفسي، ودفعوا باهظا ثمن انتمائهم إلى المنظومة القديمة وإيمانهم بها وانخداعهم بشعاراتها دون أن يكونوا ضالعين في الفساد أو مورطين في أيّ شيء. لقد كانوا يمثلون الأغلبية الصامتة التي تعرف ما يجري في كواليس السلطة لكنها تحلم بالإصلاح من الداخل، ثم دفعت ثمن ما اعتبر «تواطؤا بالصمت».

لقد انتابت الجميع في البدء «حالة العفّة الثورية» وما تزال تنتاب البعض حتى يومنا هذا، وقد رُفع فيها شعار «لا فرق بين زلم وآخر»، يشهد بذلك الموقف المسرحي المهين الذي خاطب فيه الرئيس قيس سعيد مرشحه لرئاسة الحكومة هشام المشيشي باستعلاء عندما تناهى إلى سمعه أنه سينتدب وزيرين من أكفأ من أنجبت منظومة بن علي في تخصصهما، قائلا بوضوح: لا مكان لهؤلاء في الدولة!

لكن سياسة وضع البيض كله في سلة واحدة لا يستفيد منها دائما إلا الفاسدون والذين لا كرامة لهم، فقد عاود فعلا كثيرٌ من الانتهازيين والوصوليين والوشاة على امتداد السنوات العشر الماضية الظهور في مختلف الأحزاب وتسلقوا من جديد السلالم المفضية إلى كراسي السلطة، فيما انسحب كثير من الشرفاء الذين اعتبروا أن تشبثهم بما جاء في بيان السابع من نوفمبر حتى اللحظة الأخيرة سذاجة تستحق العقاب. وأيا كانت المبررات التي يسوقها محمد الغرياني لوجوده في ديوان رئيس مجلس النواب فإنه لن يستطيع أن يغير من واقع الحال شيئا فبهذا التعيين يهين راشد الغنوشي أبناء الحركة الإسلامية ويعتدي رمزيا على الديمقراطية ويهين فكرة الثورة ويستخف بكل قطرة دم أهرقت من أجلها.


رؤية الواقع كاريكاتوريا في السيرة العطرة للزعيم

 

أحدث روايات شكري المبخوت

أحدث روايات شكري المبخوت

يقتحم شكري المبخوت بروايته الجديدة «السيرة العطرة للزعيم» عالم الأدب السياسي الساخر، وهو نوع من الكتابة الروائية قليل عربيا، فيما اشتهر به كتاب عالميون من أمثال الروائي التركي عزيز نسين. وهو يقارب في هذا النص السردي الجديد والمختلف عما عرف به سابقا منذ روايته «الطلياني» فكرة الزعامة السياسية بشكل كاريكاتوري من خلال شخصية «العيفة بن عبد الله».

تتكوّن الرواية من أربعة عشر فصلا، ويمكن اعتبار النص الأول (فاتحة) والنص الأخير (تذييل: ترجمة الزعيم) بمثابة النص الإطار الذي يحتوي المتن السردي والجسر الذي يصل الرواية بالواقع، ففي الفاتحة جملة أساسية تطلع القارئ على أهم صفة يمتاز بها الزعيم: انتماؤه إلى هذا الشعب، فهو «منحدر من أعماقه، ومن روح هذا الشعب تشرّب قيمه وأسلوبه في العيش والتعامل وحتى في البذاءة المحببة إلى النفس». ويصف الراوي بطل السيرة بأنه «الوحيد الذي يستحق زعامة هذا الشعب لكن رياح التاريخ في بلادنا تهبّ دائما عكس مصلحتها». وورد التذييل في شكل ترجمة متخيّلة منسوبة للباحث التونسي المعروف عبيد الخليفي لتنزيل شخصية «العيفة بن عبد الله» في سياق التاريخ الوطني، حيث عاش الزعيم منذ سنته الثالثة في الجامعة إلى اندلاع ثورة الكرامة 17 ديسمبر-14 جانفي 2011 حياة السرية، دون أن يتخلى عن مهامّه النضالية في تأطير الشباب الثوري والتحريض على النظام الحاكم، ورغم الأدوار المهمة التي نسبت إليه في مختلف مراحل الثورة اختفى شيئا فشيئا من المشهد السياسي التونسي بعد انتخابات 2011، وبعد أن ناصب العداء للترويكا وللإعلام والصحافة. «لكنه يظل من أبرز رجالات الثورة التونسية المجيدة وزعيما كبيرا خالد الذكر من أهم من عرفت تونس من زعماء في تاريخها»

أما المتن السردي المخصص لسيرة الزعيم في الحركة الطلابية فيتوزع على اثني عشر فصلا تبدو في الظاهر مخصصة للإحاطة بحياة العيفة بن عبد الله منذ لحظة وصوله إلى الكلية، لكنها في الحقيقة تفسر جملة أخرى وردت في الفاتحة ويمكن اعتبارها أهم مفاتيح الرواية يقول فيها الكاتب متحدثا عن الزعيم «وجعل الله له نخبة من إخوان الصفاء يشدون أزره» فالسيرة إجمالا هي قصّة صناعة الزعيم. (مواصلة القراءة…)


3 أكتوبر 1988

ameur bouazza

في مثل هذا اليوم منذ إثنين وثلاثين عاما خلت، استيقظت باكرا على غير المعتاد، وأعددت نفسي جيدا لاستقبال مرحلة جديدة في حياتي.

ركبت أول سيارة تاكسي جماعي متجهة إلى المنستير، وفي تمام العاشرة صباحا كنت أصعد درج المندوبية الجهوية للتعليم في مقرّها القديم المتاخم لكلية طبّ الأسنان. لم يكن الأمر يستدعي البقاء طويلا هناك أو مقابلة مدير التعليم الثانوي، فبمجرد الاستظهار أمام السكرتيرة بالبرقية التي وصلتني نهاية الأسبوع الفائت حتى جذبت ملفا من الدرج واستخرجت منه بطاقة التعيين ثمّ سلمتني إياها بعد أن طلبت مني التوقيع على وصل الاستلام والقبول.

كان أول تعيين لي في التعليم الثانوي بمعهد التكوين المهني الهادي خفشة بالمنستير مركز المدينة، وما إن دقّ جرس الساعة الثانية بعد الزوال حتى كنت متّجها نحو قاعة التدريس بعد أن تسلمت من أحد الكتبة في الإدارة جدول الأوقات، ووقفت لدقائق في قاعة الأساتذة مرتبكا ووجلا، فقد كنت وأنا في الحادية والعشرين من العمر الأصغر سنّا بين كل الموجودين في تلك القاعة. وعندما أكملت ساعة الدرس الأولى ناداني ناظر الدراسات عامر عزيّز وكان إلى جانبه عامر البنوني مدير المعهد في الساحة وتجاذبا معي أطراف الحديث للتعارف ولتذكيري بلباقة بضرورة ارتداء ميدعة بيضاء التزاما بالنظام الداخلي للمعهد. (مواصلة القراءة…)


عالم حنّا مينة الروائي

 

خنا مينة 1924-2018

حنا مينة 1924-2018

برحيل الكاتب السوري الكبير حنا مينة عن سن تناهز أربعة وتسعين عاما فقد الأدب العربي أحد أبرز وجوه الرواية في القرن العشرين، فهو كاتب ينتمي إلى مرحلة التحولات الاجتماعية والثقافية الصعبة في الوطن العربي، عاصر المخاضات السياسية الكبرى التي عاشتها المنطقة بدءا من حروب التحرير وصولا إلى الثورات المغدورة والربيع الدامي، ونحت تجربته من التفاعل الخلاّق بين الإيديولوجيا والحياة، فكانت أعماله في الأدب الواقعي نضالا عميقا من أجل عدالة اجتماعية يرى أنها حلم الإنسانية كلها لا حلم أجيال قليلة فقط، وسافرت رواياته من اللاذقية إلى العالم محققة تلك المعادلة السحرية بين المحلية الضيقة والكونية الرحبة، وعبر هذه الأعمال يتأسس عالم حنا مينة الروائي ويمتاز بتجذره في الواقع الاجتماعي من جهة وقدرته من جهة أخرى على الخلق والتخييل حتى ليظن القارئ أن أبطال هذه الرواية أو تلك أشخاص موجودون في الواقع.

خارج المدونة النصية تعتبر شخصية حنا مينة الإنسان أحد أهم العناصر المكونة لظاهرة «حنا مينة الكاتب»، فهو ينتمي إلى طائفة من الأدباء تلعب تفاصيل حياتهم دورا أساسيا في ذيوع أدبهم وتتحول سيرتهم الأولى في مرحلة ما قبل الكتابة إلى نوع من الخرافة أو الأسطورة، على غرار قصة جان جينيه (1986-1910) مع اليتم والفقر واللصوصية والتشرد كما وردت في كتاباته عن الذات أو في حواراته الصحفية ثم تطورت لتصبح مادة تأمل وجودي لدى سارتر في كتابه (القديس جينيه، الممثل والشهيد)، وقصة الكاتب المغربي محمد شكري (2003-1935) مع الفقر والأمية ومسيرة تدرجه من عالم هامشي مقموع إلى مصاف الكتاب والأدباء الكبار، وهذه القصص المليئة بالإثارة والخارجة عن المألوف تقوم كلها على عنصر جوهري هو تحدي النظام الاجتماعي وإرغامه على قبول ما يختلف عنه، وتصبح قصة الصراع هذه رافعة تجارية مهمة للنص قبل الخوض فيما يميزه من داخل البنية الأدبية ذاتها، وفي تجربة حنا مينة نعثر على سيرة مختصرة مبهمة تتكرر في كل المصادر بنفس الصيغة وتقول إن الكاتب عاش طفولته في إحدى قرى لواء الإسكندرون على الساحل السوري، ثم عاد مع عائلته إلى مدينة اللاذقية، وأنه كافح كثيرًا في بداية حياته، واشتغل في مهن مختلفة، فعمل حلاقًا وحمالًا في الميناء وعمل مصلّحَ دراجات ومربّي أطفال في بيت سيد غني وعاملا في صيدلية، ثم تدرج في المرتبة الاجتماعية نوعيا وأصبح صحفيا وكاتب مسلسلات إذاعية للإذاعة السورية بالعامية، وموظفا حكوميا وانتهى روائيا. وتبدو هذه المسافة الملغزة من الأعمال اليدوية الشاقة إلى النشاط الذهني مجسدا في الإبداع الروائي كلّ سيرة حنا مينة التي تسبق أدبه وتسوّق له بل وتستحوذ على الاهتمام أكثر من أدبه ذاته لا سيما في سياق البحث عن الإثارة الإعلامية، وهي على كثافتها تكفي أيضا للتدليل على مدى التزامه بالإيديولوجيا التي اعتنقها وعبر عنها حيث تبدو صورة الكاتب اليساري القادم من وسط اجتماعي فقير صورة جذابة، لكن هذه السيرة تخلو من المصادر الأدبية التي صنعت تجربة الكاتب أو الكيفية التي استطاع بواسطتها أن يصبح أديبا في الأربعين من العمر، وإنما تتألف القصة فيها مثلما هو مألوف في غيرها من قصص العصامية من ثنائيات ضدية متعدّدة: الفقر والغنى، الجهل والمعرفة، المادة والفكر.

 ويغذي حنا مينة أسطورته الذاتية في الخيال الشعبي بوصيته التي كتبها يوم 17 أغسطس من العام 2008 ونشرتها جريدة «الثورة» في دمشق اليوم التالي، ففيها يذكّر مجدّدا بسيرة كفاحه الأولى «منذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذورٌ للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء»، وعلّق على ذلك الناقد «صقر أبو فخر» في مقال بعنوان: «ماذا يفعل حنا مينة هذه الأيام؟» قائلا: «الواضح أن لغة تلك الوصية موشّحة ببعض العبارات الدينية، وهي غريبة على روائي شيوعي عريق ظل يجاهر بشيوعيته حتى الأمس القريب» وينتهي إلى القول بأن حنا مينة أضحى وهو في التسعينات من العمر «يتقلب في عزلة الألم، أو في ألم العزلة، بعدما رحل جميع أصدقائه، و”تشقلب” العالم كله من حوله».

هكذا إذن تُختصر حياة حنا مينة في كونه كاتبا عصاميا توقّف عن الدراسة منذ المرحلة الابتدائية وعمل أعمالا شاقة لمكافحة القهر الاجتماعي، وانتصر على الشقاء بأن أصبح كاتبا مرموقا، يؤكد الكاتب نفسه في وصيته ما يحفّ بحياته من غموض بقوله: «ليس لي أهلٌ، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا عليّ عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية» وهكذا جعل الكاتب حياته الشخصية مبثوثة في رواياته وإن لم تكن كما هو متعارف عليه في الأعراف الأدبية من جنس السيرة الخالصة أو الرواية السيرية المتفق حولها، فهي روايات أساسا لكن حضور ذات الكاتب فيها من أهم مظاهر انشدادها إلى الواقع الاجتماعي، من خلال إحالات مكانية وزمانية تنتمي إلى عصر الكاتب وحياته على غرار المرافئ والمقاهي ومدن البحر، كما كان شأن نجيب محفوظ في روايات المرحلة الواقعية وغيره من الكتاب الذين لا يبتعد خيالهم كثيرا عن حياتهم وواقعهم. ويلخص حنا مينة هذا التداخل بين حياته وأدبه في قوله «قد تقضى العمر في حلقاته المتتابعة، بشيء جوهري لدي هو تحقيق إنسانيتي، من خلال تحقيق إنسانية الناس. أنفقت طفولتي في الشقاء، وشبابي في السياسة، ولئن كان الشقاء قد فُرِضَ عليّ من قبل المجتمع، فعشت حافياً، عارياً، جائعاً، محروماً من كل مباهج البراءة الأولى. فإن السياسة نقشت صورتها على أظافري بمنقاش الألم، فتعلمت مبكراً، كيف أصعّد الألم الخاص إلى الألم العام، وكيف أنكر ذاتي، وأنتصر على رذيلة الأنانية، وكل إغراءات الراحة البليدة، التي توسوس بها النفس، فكان الإنسان في داخلي، إنساناً تواقاً إلى ما يريد أن يكون، لا إلى ما يُراد له أن يكون»

داخل مدونة حنا مينة النصية عالم روائي واحد تتشابه فيه المناخات وتتكرر يسميه النقاد عالم البحر، لكن الميناء لا يمثل مكانا روائيا يستوعب الأحداث التي يخوضها أبطال الرواية بقدر ما هو موقع رمزي تخوض فيه الذات الراوية معركتها مع الوجود. ولئن كانت الرواية تقوم على هذا العالم المطابق للواقع والذي يلبي شهية النقد الاجتماعي القائم على فكرة الانعكاس بين النص والمجتمع فإنها تقوم أيضا على فكرة البطل وصورته الخارقة، فهو العمود الفقري الذي تتحلق حوله الأحداث وتتجمع، هكذا هو «مفيد الوحش» في «نهاية رجل شجاع» الرواية الأكثر شهرة بعد أن تم تحويلها العام 1993 إلى مسلسل تلفزيوني ناجح وهكذا هو «زكريا المرسنلي» في «الياطر» أهم رواية كتبها حنا مينة من وجهة نظر كثير من النقاد يعتبرون أنه لم يكتب بعد أكثر من ثلاثين عنوانا إلا رواية واحدة.

عامر بوعزة

 


كيف أصبح الباجي قايد السبسي رمزا

91_3624014686204198912_nلو وضعنا صُورَ الجنازة المهيبة التي ودّع بها التونسيون رئيس الجمهورية جنبا إلى جنب مع الصور التي رافقت ظهوره من جديد في الساحة السياسية قبل ثمانية أعوام لوقفنا على واحدة من أكبر المفارقات، فالسبسي حين كلفه الرئيس المؤقت فؤاد المبزع برئاسة الحكومة الانتقالية لم يكن معروفا بالقدر الكافي لدى قطاع عريض من «شباب الثورة»، والمعلومات القليلة التي تناقلوها عنه في وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن لصالحه البتة لأنه يتوفّر على كل المواصفات التي تصدّى لها الراديكاليون جميعا من اليمين إلى اليسار.

من هذه المواصفات سنّه التي تجاوزت الثمانين عاما آنذاك، وانتماؤه إلى ما يُسمّى لديهم «الدولة العميقة»، وانحداره من طبقة تُعتبر دائما في «المخيال الثوري» أحد أهم أسباب اختلال الميزان الاجتماعي. واشتغلت ماكينة الدعاية على هذه المحاور الثلاثة لتخرج منها قصصا جعلته وهو يعود إلى الحكم بعد نحو عشرين عاما من الانقطاع في مواجهة تجربة جديدة مختلفة كليا عن تجاربه السابقة، كل شيء فيها منفلت، بدءا من طموحات الفاعلين المحيطين به وتعطشهم الحارق إلى السلطة، وصولا إلى الشعب الذي كان يعتقد أن تغيير النظام يكفي لحل كل مشاكله وتلبية كل تطلعاته، مرورا بوسائل الإعلام التي أصبحت تعتبر نقد الحكومة المعيار الأول للاستقلالية. وكان عليه أن يواجه جبالا صلبة من الأحكام المسبقة تذهب حدّ المطالبة بمحاسبته على مواقفه في مختلف المعارك القديمة، ولا تهدأ البتة عن تكفيره لمبادئه المتحررة في مسألة العلاقة بين الدين والدولة. كانت تجربة مضنية ومشوّقة لرجل في سنّه المتقدّمة وخبرته المُعتّــــقة، لا تشبه في شيء زمن بورقيبة حيث كان كل شيء يسير بدقة وانضباط، في كنف الالتزام التام بمكانة الزعيم الرمزية ودوره التاريخي. فكان السبسي في 2011 أشبه بمروّض الثيران الهائجة، أو مُربّي التماسيح المتوحشة في سرك مفتوح على كل الاحتمالات. (مواصلة القراءة…)


متى تتحرّر التلفزة من براثن أبنائها!

 

التلفزة الوطنيةتعليقا على نقدي بشكل مكثف برنامجا تقدمه التلفزة الوطنية كتب الصديق الصحفي حليم الجريري قائلا:
«أخطأت الزميلة فاطمة البارحة فوبّختَها بطريقتِك وأخطأتْ اليوم فزدتَها توبيخا. هذه السيدة من محترمات التلفزة الوطنية ومن أكثرهن أخلاقا وخُلُقا وحتى مهنيّةً وحيادًا. والذي لا يَعمَل لا يُخطئ، وقد أخطأَتْ مرّتين، ولو عرفت المرأة من قريب لراسلتَها على الخاص لتلومها بَدَلا عن التعبير عن رأيك فيها على رأس الأشهاد، ممّن يتصيّدون الفُرَصَ لثلب كل صحافي من المرفق العُمومي سعيا لتتفيه التلفزة الوطنية والنّيل منها» (مواصلة القراءة…)


عن الحرية والاستبداد

مريم بوزيدي

مريم بوزيدي

قالت سلطة الإشراف كلمتها في قضية الأستاذة التي طلب زميلها نقلتها من قاعة الامتحان في أحد اختبارات الباكالوريا، ونفى التحقيق الإداري المزاعم التي راجت في الفايسبوك حول امتعاض الزميل من هندام زميلته ومظهرها وتحديدا اللون الأحمر الفاقع على شفتيها، وهي القصة التي جعلت من الحادثة قضية رأي عام لغرابتها وطرافتها وما توحي به من شبهة تزمت لم يعد غريبا عن بيئتنا التعليمية في السنوات الأخيرة.

والرواية الرسمية كما جاءت على لسان المدير الجهوي للتربية تنفي ذلك لكنها لا تنفي المظلمة التي تعرضت لها الأستاذة بل تؤكدها، فقد تنفس الجميع الصعداء عندما فندوا جملة وتفصيلا حكاية أحمر الشفاه، لكنهم تغاضوا عن البعد البيداغوجي في القضية وهو هنا مربط الفرس وقطب الرحى.

(مواصلة القراءة…)


فرح في جبّانة

مقبرة المهدية
مقبرة المهدية

سارعت النيابة العمومية بفتح تحقيق عدلي إثر تداول مقطع فيديو لحفلة عرس وسط مقبرة في جهة المهدية، والتهمة التي سيدور حولها التحقيق هي «انتهاك حرمة المقابر». وجاء في البلاغات الصحفية التي أعلنت هذا الخبر أن مقطع الفيديو المذكور «أثار استياء رواد مواقع التواصل الاجتماعي» بما يعطي الانطباع بأن سرعة تحرك النيابة العمومية متصل بهذا الانطباع الفايسبوكي العام. وأيا كان تقييمنا لهذه المتلازمة، نعتقد أن النيابة العمومية قد اقتحمت في هذه القضية بالذات منطقة محفوفة بالمخاطر.

السبب الأول في ذلك أن زوايا الأولياء الصالحين المنتشرة في كامل تراب الجمهورية تُستخدم عبر التاريخ وباختلاف العادات والتقاليد في إقامة الأفراح العائلية تتساوى في ذلك الأسر التي تنحدر مباشرة من سلالة هذا الولي أو ذاك، والمريدون الذين قد يفدون من مناطق قصية لهذا السبب، وهي مسألة أساسية في التفكير الصوفي الشعبي المتوارث، حيث تعتبر زيارة الولي الصالح جزءا من تقاليد العرس أو الختان فضلا عن حفلات الزردة، ويتبرّك الناس بإقامة الاحتفالات في رحاب الزاوية وحول الأضرحة الموجودة فيها، والزاوية أولا وقبل كل شيء مقبرة. وهكذا نجد الكثير من الحفلات تقام في مقام سيدي المازري بالمنستير وهو يقع في مقبرة المدينة، أو مقام سيدي عامر المزوغي الذي فيه قبور كثيرة ويطلّ مباشرة على مقبرة القرية. وكذلك مقام سيدي جابر بالمهدية حيث تمّ تصوير الفيديو في قضية الحال، والموقف من الأفراح المقامة في الزوايا قد يخفي وراءه وإن عن حسن نية موقفا من هذه المعتقدات ذاتها، و أضرحة الأولياء الصالحين تظل دائما هدفا للسلفيين المتطرفين والتكفيريين وللإسلاميين الوهابيين.

مقبرة المنستير
مقبرة المنستير

السبب الثاني يتعلق بجغرافيا المقابر، فلئن كانت في بعض المدن الكبرى تقع خارج المجال العمراني فإن مقابر بعض المدن متصلة بالحياة اليومية وجزء من المشهد الحضري، ينطبق هذا على المنستير، التي يشق مقبرتها ممشى عريض يؤدي إلى روضة آل بورقيبة وهو مرصّع بالكراسي الحجرية ومتاح للعائلات في كل وقت وفي بعض الفصول يصبح ملاذا شبه آمن للعشاق الهاربين من عيون الفضوليين. أما مقبرة المهدية فعلاوة على مكانتها في نفوس أهل المدينة تعتبر الوجهة السياحية الأبرز في عاصمة الفاطميين، وهي تحفة شعرية تشهد عليها نصوص المنصف الغشام، الذي يحضر بدوره في نص بديع للمنصف الوهايبي عنوانه «شارع بول فاليري» يقول فيه:

لا عينَ للرؤيا/وقد رمّمتُ بالنسيان ذاكرتي/ومن يومين/في جبّانةٍ بحريّةٍ/في دار مملكة المعزّ الفاطميِّ/لعلّها سيتٌ لنا.أخرى/رأيتُ هناك في ثيدروسَ أهراءَ المنازلِ والدّلاءَ على التلالِ وفي الحقولِ./رأيت فيلاتِ الرومانيّين فلاّحينَ صيّادينَ…

 السبب الثالث قانوني يتعلق بفحوى التهمة إذ أن انتهاك حرمة المقابر مفهوم مطاطي يتسع لأكثر من معنى، ويستخدم عادة لتجريم أفعال السحر التي يأتيها بعض الأفراد عند نبش المقابر أو تعاطي المخدرات والخمور في هذه الفضاءات حيث يتوفر قدر كبير من الهدوء والأمان للمنحرفين العتاة. وينبغي توفر قدر كبير من الاجتهاد والفهلوة لاعتبار حفلة أسرية في مقر ولي صالح انتهاكا لحرمة المقابر.

أما السبب الرابع فديني ميتافيزيقي، إذ ينقسم المفسّرون إلى قسمين: قسمٍ يرى أن وعي الانسان بما حوله يتوقف لحظة موته ولا يعود إليه إلا يوم القيامة، فيما يرى آخرون أن الموتى يسمعون ويرون ويشعرون بل ويبتهجون بما يصلهم من دعوات وصدقات، وحقيقةُ هذا في علم الغيب ومن أسرار الكون العظمى، ولا يعلم أحد إن كانت أفراح الأحياء تسعد الموتى أم تقضّ مضاجعهم وتشوش موتهم حتى يجدوا في النيابة العمومية نصيرا لهم ولمن استاء لحالهم في الفايسبوك.

لقد كان من الأنسب أن تتولى الإحاطة بهذه المسألة بلديةُ المكان لعلمها بعادات المدينة وتقاليدها ولضرورة أن تكون كل مظاهر الفرح خاضعة للترخيص سواء أكانت في مقبرة أم في قاعة أفراح، أما النيابة العمومية فمدعوة إلى الاهتمام بالأحياء لأنهم أحوج في وقتنا هذا من الموتى إلى الأمن والأمان.


المعجزة التونسية 

 

لينا بن مهني

لينا بن مهني

السؤال الذي ماكان ينبغي لأحد أن يكتبه أو أن يفكر في طرحه أصلا هو هذا السؤال الذي يتردّد بحدّة على شبكات التواصل الاجتماعي وعلى ألسنة الكثيرين ممن تفعل فيهم هذه الصفحات فعلها: هل أنت مع ترشيح لينا بن مهني لجائزة نوبل للسلام أم ضدّه ؟؟

يسألون هذا السؤال كأنما هذه الجائزة هي من البساطة بمكان حتى يُستــفْـتى فيها التونسيون فيخـيرون بين رفضها أو قبولها أو التحفظ بشأن ترشيحات القائمين عليها والتقدّم بكل تواضع لنصحهم بتغيير هذا الإسم أو ذاك !!!

ما كان لهذا السؤال أن يطرح وما كان لهذا الجدل أن يندلع، فالأصل أن يفرح التونسيون لمجرد اقتراح الجنسية التونسية في فرع من فروع الجائزة له أثر رمزي هام، وتتويج “بنية تونسية” بهذه الجائزة سيكون لو تحقق أفضل تكريم للثورة وأكثر إنصافا لشبابها من مجرد إقامة تمثال أو تسمية شارع، صحيح أيضا أن جائزة السلام هي الأكثر إثارة للجدل إذا ما قورنت ببقية الفروع لأنها الأكثر خضوعا للتقدير النسبي والتجاذبات السياسوية ولكن قد يفهم ذلك إذا ما جرى في سياق دولي أما أن يصير أمر جائزة عظيمة كهذه إلى جدل فايسبوكي تونسي فهذا ما لم يكن في الحسبان !

إن خطورة هذا السؤال تكمن ولا شكّ في ادّعاء البعض باطلا وتطاولا أن الثورة التونسية هي ثورة يتيمة بلاجذور، وهذا استسهال للأمور تعمد إليه بعض الأطراف مستغلة حجم التأثير القوي الذي أضحت تتمتع به شبكة التواصل الاجتماعي الالكترونية في الذهنية التونسية إذ تغمط المناضلين الحقيقيين الذين أسسوا لفكرة الثورة وحرّضوا على العصيان المدني حقهم المعنوي وتعتدي على شرفٍ تواضعوا في المطالبة به غافلين عن قصر الذاكرة التونسية وما يمكن أن يترتب عنه من عجب عجاب..

فآباء الثورة التونسية وأمهاتها كثر والنضال الحقيقي ضدّ نظام بن علي بدأ أشهرا قليلة بعد اعتلائه سدّة الحكم، وقد اجتمع رجال ونساء من مختلف الأفكار والتيارات والأحزاب في الداخل والخارج خلال عقدين من الزمن على مغالبة الطغيان جاهدين في كسر أطواق الخضوع وما أكثرها ومنها تواطؤ العامة بالصمت والفرجة والانتهازية ومنطق “أنا ومن بعدي الطوفان…”، لقد ذاق هؤلاء مرارة الهجرة والمنفى والقهر والاغتصاب والإذلال بينما كان السواد الأعظم من التونسيين يترنحون طربا وهم يسبحون بحمد قائدهم، وهؤلاء “المناوئون” هم الذين أقضوا مضجع السلطان ولم يتنازلوا عن طلب الحق في الحياة الكريمة ولم يهادنوا في الذود عن عزة النفس الغالية ثابتين على المبدأ بينما كان قطار “التغيير المبارك” يسير ببطء ممل على سكة واحدة تسمى “فرحة الحياة” أو “لنرفع التحديات…” ولكن في الاتجاه الخطأ، الاتجاه المعاكس لحركة التاريخ ونبض الواقع…

ستخطئ كل مقاربة لتاريخ الثورة التونسية حتما إذا لم تتّخذ من تراكم النضالات وتنوعها مدخلا لإيفاء المناضلين الأصيلين حقهم وفرزهم من “مناضلي الفايسبوك” أو “فلاقة 15 جانفي” وما أكثرهم…، وهو عمل من الضروري مباشرته بكثير من الحياد العلمي الآن وبسرعة قبل أن تنطمس معالم الحقيقة وتندثر، فمن أخطر ما قيل في سياق التجاذب الكاذب قول أحدهم “إن الثورة قام بها أولاد الفقراء وسيقطف ثمارها أولاد ناناتي”، إذ أن أحداث 17 ديسمبر في سيدي بوزيد وما تلاها في القصرين وتالة وصولا إلى العاصمة لم تكن معزولة عن سياق النضال الحقوقي الشرس دفاعا عن الحريات وتعرية للجرائم التي ظلت ترتكب ضد الأحرار في أقبية نظام بن علي البوليسي وزنازينه على مدى أكثر من عشرين عاما..

ولينا بن مهني التي يستكثر البعض أن يرد اسمها اليوم في محفل نوبل مرشحةً لجائزة السلام تنتمي إلى فئة من الشباب لم يكن نضالها السياسي مجرد نقر على لوحة المفاتيح بإصبع واحدة، بل هي غصن من شجرة الراحل زهير اليحياوي شهيد الانترنت الأول الباسقة، تنتمي إلى جيل المدونين المؤسسين وقد كانوا الشوكة الأكثر إيلاما في حلق النظام السابق، ومن المؤسف حقا أن يتعامى كثيرون عن صوتها الجسور الرائع الذي كان يخترق بشجاعة نادرة حجاب الصمت والخوف والرضى بالأمر الواقع في سنوات النضال التي سبقت الثورة وعبّدت طريقها، ومن المؤلم أن يتواصل طمس الحقائق بأكثر من حيلة ولأكثر من سبب فرفض تكريم لينا الجامعية المثقفة المتحررة الشجاع لا يختلف في شيء عن رفض تكريم البوعزيزي الفقير المعدم واعتباره رمزا للثورة !

إنهم ببساطة شديدة ولأسباب غامضة يرفضون كلّ شيء !

وكل هذا الجدل حول لينا بن مهني يكشف مع الأسف حجم الكراهية والبغضاء التي تنتشر في نفوسنا نحن التونسيين والتي لم يزدها تعلقنا بالفايسبوك (وهي في الأصل شبكة للتواصل الاجتماعي) إلا ثباتا ورسوخا، فأمام تأصل معاداة التونسي لنجاح أخيه التونسي تسقط كل المفاهيم  السامية وتتدحرج كل القيم النبيلة إلى الهاوية، ولا نستغرب اليوم أن يتمنى كثيرون ذهاب الجائزة إلى مصر حتى لا تفوز بها لينا بن مهني وهذه هي الحقيقة المرعبة التي نتجرع مرارتها صباحا مساء والورم الخبيث الذي لم تتمكن الثورة من استئصاله بل أججت أوجاعه أكثر فأكثر…

لقد درجت العادة أن يُـغتال الفائزون العرب بجائزة نوبل للسلام بعد أن يتسلموها ويتمتعوا بها قليلا، أما في موضوع الحال فها قد خرجت السيوف من أغمادها لمجرّد تداول خبر لم يتأكد أحد من صحته بعدُ وتلك هي المعجزة التونسية الحقيقية.

(كتب هذا النص في أكتوبر 2011)


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress